دخل لبنان يومه الأول من العام الميلادي الجديد في منطقة فراغ. والفراغ الرئاسي الذي يعيشه هذا البلد المغلوب على أمره بدأ رسميا في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ويتوقع أن تستمر سياسة تمديد الأزمة إلى فترة غير معلومة بسبب انغلاق آفاق الحل وعدم وجود استعداد محلي للقبول بتسوية قاسية تنقذ البلد من كوارث تنتظره.
اليوم الأول من العام 2008 بدأ بفتح سلسلة أبواب ولكنها تبدو في نهايتها مغلقة. من الناحية البرلمانية انتهت أمس رسميا دورة الانعقاد النيابية العادية وهذا يعني أن الكتل النيابية تحتاج إلى فترة انتظار تمتد إلى ما بعد 15 مارس/ آذار المقبل لفتح دورة اعتيادية جديدة. وحتى تتلافى الحكومة الإحراج اتخذت خطوة احترازية قررت فيها تعديل مادة دستورية تسمح بانعقاد مجلس النواب من دون حاجة للانتظار طوال تلك الفترة.
خطوة الحكومة استفزت رئيس البرلمان نبيه بري ورد عليها بالإعلان عن 12 يناير/ كانون الثاني الجاري موعدا لانعقاد جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وذريعة بري تعتمد على نقطتين: الأولى أن الحكومة لا يحق لها اتخاذ قرارات دستورية لأنها «غير شرعية» و«غير ميثاقية». والثانية أن «الفراغ الرئاسي» يعني دستوريا أن البرلمان في حال انعقاد دائم ولا يحتاج إلى تعديل أو انتظار فترة الدورة العادية.
الإشكال الدستوري الحاصل بين الحكومة ورئيس البرلمان أعاد إنتاج توتر سياسي بين كتل البرلمان. فالحكومة اتهمت رئيس البرلمان بمصادرة الدستور والسطو على صلاحياته. وبري اتهم الحكومة بالانقلاب على الدستور... وهكذا دواليك. والنتيجة الحاصلة بين التعارضين هو ذهاب لبنان إلى حائط مسدود يرجح أن يصطدم به في حال انزلاق قواه إلى مزيد من التصعيد السياسي.
احتمال التصعيد بدأ يتدرج ويمكن أن يشهد البلد حالات من «استعراض العضلات» في الأسبوع الأول من الشهر الجاري. هذا على الأقل ما أشارت إليه مصادر قوى «8 أذار» إذ هددت بالنزول إلى الشارع وتعطيل ما تبقى من مؤسسات الدولة. كذلك أخذت تظهر تشنجات مسلحة بين «فتح» و«حماس» في المخيمات الفلسطينية على خلفية سياسية تبدو قريبة من تلك التقاطعات الإقليمية على خط نمو المسار السوري - الإسرائيلي على حساب تراجع المسار الفلسطيني - الإسرائيلي.
تشنج المخيمات الفلسطينية في لبنان المترافق مع تحسن الاتصالات الدولية مع دمشق وما يقال عن دور أميركي جديد يطمح إلى فتح قنوات المسار (التفاوض) بين سورية و«إسرائيل» يمكن أن يسهم في زيادة درجات التوتر ورفع نسبة سخونة الملف اللبناني في فصل شتاء قارس.
اخبار بلاد الأرز ليست جيدة والتزحلق الحاصل الآن على المرتفعات والثلوج يمكن ان ينحدر إلى هاوية سياسية لا يعرف عمق قعرها. وحث هذا القلق الدستوري والتأجيل المتواصل لموعد الاستحقاق الرئاسي جامعة الدول العربية للتحرك ودعوة وزراء الخارجية إلى الاجتماع في القاهرة لبحث الأزمة اللبنانية في إطار تعثر المسار الفلسطيني وخصوصا موضوع الاستيطان والتوطين.
اجتماع وزراء الخارجية العرب تحت مظلة جامعة الدول في القاهرة لا يتوقع منه أن يأتي بالحل النهائي ولكنه على الأقل يرسل اشارة عربية لدمشق بان تتعاون مع بيروت لوضع حد للتصعيد ومنع حصول مواجهة قبل انعقاد جلسة 12 يناير الجاري.
دعوات ومسارات
دعوة سورية إلى التدخل من خلال الطلب منها للضغط على أنصارها ومجموعاتها السياسية في لبنان ليست جديدة. فهي صدرت سابقا عن فرنسا وأملت على الرئيس نيكولا ساركوزي الاتصال خمس مرات بالرئيس بشار الأسد من دون نتيجة. كذلك تكررت الدعوة من جديد خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده الرئيس المصري حسني مبارك مع ساركوزي في القاهرة أمس الأول. فالرئيس المصري حث سورية على التدخل لوقف جولات تمديد موعد انتخاب الرئيس لان التمديد يعني دفع الأزمة إلى التفاقم مع احتمال انفجارها.
دعوة الرئيس مبارك يرجح الا تلقى التعاطف أو الاستجابة في اعتبار أن المشكلة الرئاسية في لبنان تعتبر الآن عقدة سياسية تتقاطع في وسطها مجموعة حسابات إقليمية ودولية. الرئيس الفرنسي مثلا أعلن عن يأسه وقرر سحب وساطته وتجميد اتصالاته بالرئيس السوري. وزير الخارجية وليد المعلم اتهم الولايات المتحدة بأنها هي الطرف الذي تدخل وافشل المبادرة السورية - الفرنسية. وفد الكونغرس الأميركي في دمشق ذكر في لقاء صحافي أن واشنطن تراقب الوضع وهي مرتاحة للمبادرة السورية - الفرنسية بشأن احتواء أزمة الرئاسة اللبنانية. وهذا الوفد الأميركي الذي جاء إلى دمشق من تل أبيب أكد أنه على أهبة الاستعداد للقيام بدور لفتح قنوات الاتصال على المسار السوري - الإسرائيلي تلبية لرغبة الطرفين.
عقدة الاتصالات وتضارب التصريحات وعدم اتضاح معالم الصورة كلها نقاط تكشف عن وجود زوايا مظلمة لم تظهر حتى الآن إلى النور. مثلا سورية تتهم أميركا بأنها عطلت الوساطة الفرنسية والوفد الأميركي في دمشق يؤكد دعمه للوساطة الفرنسية - السورية. وساركوزي يعلن من القاهرة تجميد الوساطة لأن سورية أحبطتها وليست واشنطن.
الكل يتهم الآخر. سورية تتهم أميركا. فرنسا تتهم سورية. والوفد الأميركي في دمشق يجدد رهانه على المبادرة السورية الفرنسية. والرئيس ساركوزي يعلق اتصالاته مع دمشق.
أين الصحيح من الخطأ. من يكذب على الآخر. من يناور ويكسب الوقت. من له مصلحة في تعطيل المؤسسات الدستورية. لمصلحة من تعطل الدولة اللبنانية. ومن هي الجهة المستفيدة دوليا وإقليميا من وراء تخريب بلاد الأرز وتوزيعها مناطق نفوذ وفق تراتب نسبي للحصص كما هو حاصل الآن في بلاد الرافدين.
كل هذه الأسئلة يتوقع طرحها في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة في الأسبوع المقبل.
الا أن السؤال الكبير يبقى معلقا. هل لبنان دخل من جديد في سياق التفاوض الإقليمي في حال أقدمت واشنطن على تنشيط المسار السوري - الإسرائيلي كما وعد وفد الكونغرس في دمشق؟
هذا الاحتمال ليس مستبعدا في اعتبار أن المنطقة دخلت في منعطف سياسي قد يشهد متغيرات في الأولويات والتحالفات الإقليمية. والمنعطفات دائما تتطلب الحذر وتخفيف السرعة حتى لا تقع الأخطاء والاصطدامات وخصوصا في ساحات ساخنة تشهد حالات قلق كما هو ظاهر في الملفات العراقية والفلسطينية واللبنانية.
لبنان ليس أولوية أميركية. كذلك لم يعد في رئاسة ساركوزي كما كان حاله في عهد جاك شيراك. وحين يتراجع لبنان في سلم الأولويات إلى درجة ثانية يحتل أمن «إسرائيل» المرتبة الأولى. وهذا بالضبط ما يمكن ملاحظته من تلك الأحاديث والتسريبات والتصريحات التي تؤكد ضرورة تنشيط المسار السوري - الإسرائيلي. فالتنشيط على المسار المذكور يعني تجميد المسار الفلسطيني - الإسرائيلي وعودة النفوذ السوري إلى لبنان سواء عن طريق المخيمات أو البرلمان أو الرئاسة... أو الشارع. والاحتمال الأخير المرجح هو الأسوأ
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1943 - الإثنين 31 ديسمبر 2007م الموافق 21 ذي الحجة 1428هـ