قبل أيام رَمَتَ وكالات الأنباء خبرا لم يحظ باهتمام يُذكر. الخبر يقول إن السفير الأميركي في العراق كريستوفر هيل تحدّث بشيء من الصراحة (والفجاجة معا) أمام لجنة تشريعية في الكونغرس الأميركي حول الأوضاع السياسية والأمنية للعراق.
السفير هيل قال: «علاقة العراق مع جيرانه ستحدد شكل المنطقة في السنوات المقبلة». ثم تساءل «هل العالم العربي السُّنّي على استعداد لإفساح المكان لدولة يقودها الشّيعة ولا يهيمنون عليها»؟!
بطبيعة الحال فإن حديث السفير الأميركي يعكس واقعا إقليميا مُعقّدا باتت واشنطن مُتورّطة فيه بشكل مباشر. فالحديث عن حُكم الشّيعة للعراق والقبول السُّنّي لذلك الحكم يعني أن هناك خلافا على شكل النظام السياسي في بغداد بين واشنطن وبعض حلفائها من الدول العربية.
المُهم من تساؤل السفير هيل هو أمران لا ثالث لهما.
الأول: هو أن التوصيف وإرهاصات الحلّ لشيعية العراق أو سُنّيّته تقودها الولايات المتحدة الأميركية وليس العراقيين أنفسهم، مع التأكيد هنا على فداحة الخطأ في إبراز عراق مذهبي الحكم.
والثاني: هو التساؤل ما إذا كان الجُرح العراقي النازف هو نتيجة العض على صفة الحكم الطائفية نحو التسنّن أو التشيّع، وما هو الحدّ الذي يتحتّم على العراقيين دفعه لكي يُغادرهم الإرهاب الأسود من دون التنازل على الصّفة المذهبية.
في الأمر الأول يُصبح التخيُّر الأميركي ما بين الشّيعة والسُّنّة لقيادة العراق أمرا سيئا. فواشنطن قد لا يُغيضها إن حَكَمَ السُّنّة أو الشّيعة ما دام الخيار سيُحقّق لها استقرارا يُتيح لجيشها تفرّغا أكثر في أفغانستان.
هذا التخيّر بالتأكيد مرتبط بمقبوليّة عربية إقليمية. فعندما تُقرّر لجنة من الكونغرس تُناط بها مهمّة البحث عن جواب بأن المحيط العربي الحليف للغرب غير راضٍ عن حُكم الشيعة للعراق، فهذا معناه أن على الأحزاب العراقيّة الشيعية أن تخرج من السلطة.
وعندما تخلُص اللجنة إلى قرارها ويبدأ العمل للتنفيذ، فإن المعركة اللاحقة ستكون في كيفية تقبّل الأحزاب الشيعية العراقية المطرودة وظهيرها لهذه النتيجة؟! وبالتالي تُعاد كرّة العنف من جديد.
هنا يُعاد إنتاج الفكرة من جديد للوصول إلى الأمر الثاني. فإذا كان العنف الذي يجري داخل العراق هو من أجل تغيير شكل الحكم فهذه مصيبة. ثم إن المصاب التالي هو أن من يعضّون على حكم العراق اليوم بالنواجذ سنراهم غير قادرين على التنازل عن السلطة، وبالتالي العمل مرّة أخرى لاستعادتها.
وإذا كان شكل الحُكم هو الأهم من كلّ شيء فأين هو التقدير والتحريم في دماء العراقيين. فإذا كانت السلطة هي من أجل ضبط ورعاية حقوق الناس، فكيف نُفسّر انقلاب المعادلة حين أصبحت دماء الناس وأعراضهم هي في سبيل السلطة والنفوذ.
من العَتَه أن يُدار العراق بحكم شيعي أو سُنّي. فإن تغالب الشّيعة على السُّنّة بالديمغرافيا الضيّقة، تغالبَ السُّنّة على الشيعة بمددٍ بشري مُجاور. وإن تسيّد السُّنّة على الشيعة بهذا المَدد لجأ المسُودون إلى جوار آخر أشدّ بأسا وهكذا دواليك.
العراق اليوم بحاجة ماسّة لأن تتنازل الطوائف عن حصتها الضيقة لصالح شيء أسمى وأزيد ثمنا. العراقيون اليوم يُقتلون بشكل لحظي. تخطّى أيتامه الأربعة ملايين، وأرامله المليونين، ومُهجرّوه الخمسة ملايين. فأي حديث عن حكم سُّنّي أو شيعي يحكم في ظلّ هذه المأساة.
من الجنون أن تُداس قوانين حمورابي التي سنّت للبشرية قوانينها لصالح أعراف وتصنيمات بائسة لا تنظر أكثر من الطائفة والعِرق. هذا الحديث ليس تعالما على الساسة العراقيين أو لكي يُباع ويُستهلك، بل هو ما يقتضيه المنطق دون سواه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ