العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ

أوباما بين رأسماليتين

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عشرات الآلاف تظاهروا في واشنطن احتجاجا على مشروع تطوير نظام التأمين الصحي الذي أحالته إدارة باراك أوباما على الكونغرس لمناقشته وإقراره. التظاهرات الضخمة كانت منظمة فهي وفدت إلى العاصمة من كل الولايات ورفعت شعارات سياسية تتجاوز النطاق الصحي واتجهت نحو تشويه سمعة الرئيس الأميركي والعبث بصورته بوضع شارات نازية على وجه أوباما.

خبراء اعتبروا هذه المظاهرة خطوة أولى وهي مجرد اختبار للشارع ومدى استعداده للدفاع عن رئيس بدأ مسيرته نحو البيت الأبيض تحت يافطة «التغيير». لذلك ركز المشرفون على تنظيم الحشد الشعبي على السخرية من شعار إمكان «التغيير» انطلاقا من رؤية مسبقة تربط الإصلاح بالاشتراكية والتقدم بالقطاع العام. فالتغيير برأي «تيار المحافظين الجدد» يعني تقويض نظام الخصخصة وتقليص دور الشركات الخاصة وتطوير دور الدولة وبالتالي فإن إصلاح نظام التأمين الصحي يلغي حرية المنافسة واقتصاد السوق ويبطل مفعول المؤسسات المستقلة ويعرضها للضغط أو الإشراف أو المزاحمة من أطراف القطاع العام المدعومة من أجهزة الدولة.

المعركة بدأت. ويرجح أن تتأرجح في السنة الأولى بين المراهنة على فشل أوباما في تمرير مشروعاته الإصلاحية وبين التركيز على المبادئ العامة التي تؤشر إلى وجود خطة انقلابية على النظام الحر والاقتصاد المفتوح على آليات السوق من دون شروط أو رقابة مركزية من الدولة. فالمعركة لا تقتصر على رفض إصلاح قانون الرعاية الصحية الذي يلبي حاجات ملايين الفقراء وأبناء الطبقات الوسطى وأصحاب الدخل المحدود وإنما شاملة لكونها ترتكز على مسألة محددة للإشارة إلى «مؤامرة» يخطط لها البيت الأبيض للانقلاب على النظام من الداخل.

المنظمون للتظاهرة استخدموا مسألة الصحة انطلاقا من قراءة ايديولوجية تتجاوز حدود مشروع القانون. فالمشروع يحاول تحسين نظام الرعاية الصحية للفئات الهامشية والفقيرة التي لا تمتلك المال لتأمين الغطاء الصحي من خلال شركات القطاع الخاص. والقانون الذي اقترحته الإدارة على الكونغرس يطمح إلى تأمين حماية لتلك الفئات التي فقدت حقها في دخول المستشفيات والحصول على الأدوية من خلال رعايتها مباشرة من الدولة من دون حاجة لشركات التأمين الخاصة التي تكلف مبالغ طائلة لا يقوى على دفعها أصحاب الدخل المحدود.

المسألة إنسانية ولكن الجهات التي أشرفت على تنظيم المظاهرة اعترضت ايديولوجيا على فكرة الإصلاح ورفضت الأخذ بها بذريعة أنها تزعزع النظام الحر وتلغي اقتصاد السوق وتدخل الولايات المتحدة تحت سقف «الاشتراكية» و«القطاع العام». وتسييس المسألة الصحية يضع إدارة أوباما في موقع دفاعي يضغط عليه لتوضيح الاختلاف بين العدالة والاشتراكية وبين تدخل الدولة للحماية والرعاية وتدخلها للرقابة والإشراف والمطاردة.

تسييس المعركة على برنامج الرعاية الصحية مسألة مقصودة لأنها تفتح على أوباما مجموعة ملفات كثيرة تشمل الحريات، حق التنافس، صلاحيات الشركات الخاصة، اقتصاد السوق، المزاحمة المفتوحة لخفض الأسعار، منع الدولة (القطاع العام) من التدخل في شئون المواطنين. وهذه الملفات الكبيرة ليست صحية وإنما سياسية لأنها تتضمن معركة تحديد هوية النظام والقواعد الايديولوجية التي يعتمدها في تسيير مختلف القطاعات.

القطاع الصحي ليس العنوان الوحيد الذي يتعرض للنقد وإعادة الهيكلة من جانب إدارة أوباما وإنما هناك خريطة طريق تبدأ بالحماية الصحية ثم تنتقل للرعاية الاجتماعية، وضمان التقاعد أو العاطلين عن العمل، وتنتهي بالإسكان والتربية والتعليم ونظام الخدمات والشيخوخة وغيرها من فروع إنسانية كانت «الدولة الرأسمالية» في الماضي تعطيها ذاك الاهتمام المطلوب لمنع الشارع من الانزلاق نحو الفوضى والعنف والتمرد والثورات.

المعركة التي بدأت في واشنطن ليست بين رأسمالية واشتراكية وبين القطاع الخاص والقطاع العام أو بين الشركات الحرة والمستقلة والدولة كما حاول المتظاهرون الإيحاء وإنما هي بين «رأسمالية متوحشة» و«رأسمالية إنسانية» وبين قطاع يطمح للسيطرة والاحتكار وقطاع يريد التدخل لمنع تكرار الأزمات والكوارث النقدية كما جرى خلال العام الماضي. أوباما لا يريد الإطاحة بالرأسمالية واقتصاد السوق ونظرية التنافس أو التجارة الحرة ومفهوم البقاء للأفضل والأحسن وإنما وعد جمهوره الانتخابي بتهذيب الرأسمالية وتقليم أظافرها بعد أن بالغت في العبث بآليات السوق والتصرف بأموال الناس بأسلوب عشوائي لا يكترث للعواقب الوخيمة بقدر ما يهتم بالربح المفتوح من دون سقف أو رقابة تنظم قنواته.


أنسنة أو توحش

المعركة بين رأسماليتين. واحدة ترى في السوق حرية مفتوحة على مجالات لا تخضع للقوانين ولا تلتزم بالعواقب لأن الآليات تمتلك قدرات ذاتية على الانتخاب وهي تختار الطرف الأصلح والأفضل للبقاء والاستمرار. وأخرى ترى أن السوق الحر لا يعني إلغاء الضوابط والإشراف وآليات التنظيم بل يحتاج إلى إدارة لأن الطموحات البشرية لا حدود لها حين تدخل في نفق الاحتكار والجشع والطمع والتسلط على قنوات النفقات أو مصادر الثروة.

المسألة إذا ليست صحية وإنما ايديولوجية. والرعاية الصحية هي البداية لأن إقرار الكونغرس لنظام الحماية يفتح الطريق أمام إدارة أوباما لخوض معارك أخرى اشد ضراوة تصل إلى حد المطالبة بالإشراف على السوق النقدية (البورصة) وشركات الأدوية ومؤسسات التصنيع الحربي وقطاعات الأشغال والاتصالات والمواصلات والتربية والتعليم والمدارس والجامعات وغيرها من فروع إنتاج ومصادر ثروة وقنوات استهلاك.

المعركة بين رؤيتين رأسماليتين. الأولى متوحشة لا تكترث للإنسانية والبيئة وتوزان الطبيعة والعدالة في توزيع الثروة وحق البشر في الحصول على الحد الأدنى من الرعايات والحمايات الذي يضمن الكرامة ولا يفرط بالحرية والتنافس وآليات السوق.

الثانية متوازنة (ذات طابع إنساني) تكترث بالإنسان وتهتم بالبيئة وتحرص على عدم استنزاف مصادر الطبيعة وتحافظ على التوازن بين نمو حاجات البشر وحماية الأجيال الآتية من مخاطر الخلل في نظام العدالة ومنع انكسار المعادلة بين الإنتاج والاستهلاك.

هذا الصراع بين الرأسماليتين ليس جديدا فهو أدى خلال القرون الثلاثة إلى تشكيل مدارس اقتصادية متخالفة في طبيعة تعاملها مع الإنسان والمال. وبسبب الاختلاف تأسست نظريات في القرن التاسع عشر أعطت صلاحيات للدولة بالتدخل لضبط آليات السوق وتشريع أنشطة الشركات الخاصة مقابل ضمانات اجتماعية وصحية وإنسانية للقوى العاملة بقصد المحافظة على التوازن ومنع قنوات العنف من الانفجار. وبناء على هذه الرأسمالية المهذبة (الموجّهة) نهضت أوروبا في القرن العشرين على أساس ضبط التوازن بين القطاع العام والقطاع الخاص وإعطاء صلاحيات استثنائية (فوقية) للدولة تشرف على ترتيب آليات السوق من خلال الرقابة المالية (المصارف المركزية) وتشريعات مؤسسات التحصيل الضريبي بقصد الإنفاق على القوى العاطلة عن العمل حتى لا تتمرد أو تضطر للسرقة والنهب لتأمين حاجاتها ومتطلباتها.

انسنة الرأسمالية أعطى دول الغرب الليبرالي الديموقراطي أفضلية سياسية للتنافس العالمي في مواجهة النموذج الاشتراكي (السوفياتي) ما أدى إلى فوز أميركا وأوروبا وكسبها «الحرب الباردة».

نزعة الانسنة أخذت بالتفكك بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وبدأت دول الغرب (فترة ثاتشر - ريغان وما بعدها) تسقط من موازناتها الكثير من حقوق الإنسان في مجالات الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية والضمانات الإسكانية وغيرها من فروع تتصل بالبطالة والشيخوخة.

الذريعة التي اعتمدتها المدرسة الرأسمالية المتوحشة كانت تقوم على نظرية توفير المال لتحسين اقتصاد السوق. فهذه المدرسة ترى أن الآليات تتكفل عفويا (الانتخاب والاختيار) في تنظيم التنافس الطبيعي والبشري من دون حاجة إلى رقابة أو إشراف وبالتالي فإن قانون الشركات الخاصة يتعرض للصعود والهبوط فيسقط الضعيف غير القادر على المزاحمة أما القوي يصمد ويستطيع إعادة هيكلة نشاطه بحسب الظروف والحاجات. وشكلت هذه النزعة المتطرفة (العودة إلى قانون الغاب) طفرة مالية فوضوية مقابل نمو التفاوت بين الأغنياء والفقراء وقضم البيئة واستهلاك ثروات الأرض.

استمرت المواجهة بين المدرستين الرأسماليتين إلى سبتمبر/ أيلول الماضي حين بدأ الانهيار في الأسواق النقدية ما اضطر الدول إلى التدخل وضخ مئات المليارات من الدولارات لإنقاذ المصارف والشركات من الانهيار وحماية العمال من التسريح العشوائي من دون تعويضات. هذه الأزمة العالمية الكبرى ساهمت في تغيير الكثير من المفاهيم وشجعت المدرسة «الإنسانية» على النمو مجددا والمطالبة بإعادة تدخل الدولة في اقتصاد السوق وتشريع الآليات حتى لا تنزلق في قنوات الجشع والطمع وعدم احترام توازن الطبيعة وكرامة الإنسان.

نمو نزعة «الانسنة» أدى إلى رفع شعبية أوباما وتسهيل نجاحه في معركة الرئاسة. فالفوز الذي حققه الحزب الديمقراطي لا يقتصر على الأسباب أو المسببات الخارجية فقط وإنما ارتكز ايضا على مجموعة معطيات داخلية أعطت فرصة لشعار «التغيير» بالعودة إلى البيت الأبيض.

التظاهرة التي نظمتها شركات التأمين الخاصة في واشنطن ضد مشروع إصلاح قانون الرعاية الصحية تعتبر بداية المواجهة وخطوة أولى ضد معركة «التغيير» والتصحيح وإعادة الهيكلة. لذلك رفع المشرفون شعارات سياسية ويافطات ايديولوجية تتهم إدارة أوباما بـ «الاشتراكية». فالمعركة لا تدور على الصحة وإنما على مسألة الدولة وهوية الرأسمالية فإذا فاز أوباما تكون أميركا قادرة على تطوير نموذجها دوليا بعد تعرضه للكساد والتراجع. وفي حال فشل أوباما في معركة الضمان الصحي يصبح الرئيس في موقع الدفاع لا يستطيع تشريع وعوده للناخب في الداخل وغير قادر على النشاط لإدارة سياسة الدولة في الخارج. وهذا الاحتمال إذا حصل تكون الإدارة وصلت في تراجعها إلى المكان الأسوأ.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً