كان أحمد عائدا لتوه من الميناء حيث كان يعمل في إحدى البواخرالراسية لتفريغ حمولتها من البضائع. الوقت عند الغروب، الطقس بارد، لذا رفع أحمد طاقية معطفه على رقبته، وكانت ربطة العنق الحمراء تتدلى فوق المعطف وكان يعتمر قبعة بيضاء تناثر عليها الغبار، وأصبح منظرها لا يتناسب مع مظهر بدلته الأنيقة. كان شارد الفكر يهيمن على نفسه الملل، الطريق خاليه من المارة خيم عليها السكون، وأصبحت موحشة غير أنه لا يحس بتلك الوحشة، إنه يتهرب من مسايرة الناس يعتقد أن بعضهم قد أساء إليه، إلا أنه يحب البعض. كان المطعم الوحيد في الشارع قريبا من السوق القديمة، وعند وصوله المطعم وجده خاليا من الزبائن إنه يعرف هذا المطعم منذ زمن بعيد. حيث يؤمه كثير من عمال الميناء وعندما دلف إلى داخله وجد شخصا كان يعرفه غير أنه لم يلتق به منذ ثلاث سنوات، كان يعمل معه في البواخر وكان شخصا مرحا يوزع ابتساماته على الجميع، يرى نفسه مخلصا يرتفع بالناس يدافع عن حقوقهم ومدافعا عن حقوق أولئك الضعفاء. يبحث باستمرار عن ميراث يعتقد أن الأخرين قد استولوا عليه، لديه تصورات بأن تلك الثروة قد تركها أجداده وهي أراض زراعية وبساتين وأن هذه من حقه ولابد له أن يعمل لاستردادها، كانت هذه الأفكار تدور في مخيلته وهو يردد إن المال هو الأصل لجميع الأشياء، بالمال يستطيع أن يحصل على كل شيء في الحياة، غير أن خبرا قلب حياته، لقد غرقت أسرته في البحر أثناء تنقلها من قريتهم في سفينة شراعية إلى جزيرة «النبيه صالح».
عندما وصل أحمد إلى المقهى وجده وحيدا لائذا بالصمت، سلم عليه لم يرد عليه السلام وهو يحرك رجله اليسرى بانتظام دون أن ينظر إلى أحد، ولا يثيره منظر ما. كان علم أحمد به لا ينفك يمرح طوال الوقت لا تفارق فمه ابتسامه وفكاهاته التي تُذهب عن العمال عناء وتعب العمل، و كثيرا ما ينعى نفسه مرددا أنه سيذهب يوما ما صريع الرافعات التي يعمل بها في الميناء. كان يجلس بالقرب منه أحد العمال العاطلين عن العمل وقد عوضته الشركة التي يعمل بها عن ساقة المبتورة. جلس أحمد على المقعد المقابل لطاولته، وأخذ ينظر إلى العامل متأملا حياة العمال والحوادث المؤلمة التي تحدث يوميا في الميناء حيث لا يوجد تأمين على الإصابات أوالتعطل عن العمل. سبق أحمد فضوله عندما سأل العامل عن المبلغ الذي اتسلَّمه من الشركة تعويضا له عن ساقة المبتوره كان سؤاله مجرد للتعرف على ذلك الاستغلال لتلك الشركه التي جمعت ثروات كبيرة من عرق العمال غير أن سؤاله لم يرق له وبقى صامتا برهة من الوقت، ثم اعتدل في جلسته و نظر إلى أحمد نظرة فيها كثير من اليأس والألم، كانت عيناه تلمعان وقد ترقرقتا بالدموع أحس أحمد بحال غريبه تنتابه و أسف أسفا شديدا، قال في نفسه لقد كنت مخطأ عندما فتحت سيرة من حياته قد انتهت وأعدت أمرا لا يرغب أن يتذكره، قال أحمد يعاتب نفسه: «لقد جرحت شعوره كنت فظا حقا» كانت شفتا العامل تهتزان وظهرت على تقاسيم وجهه علامات التأثر، قال بصوت مبحوح تظن أني أبيع ساقي بعدد كم ألف وسكت، قال أحمد :«يا أخي هون عليك إني لم اقصد ولا أعني ذلك اسمح لي إذا كنت قد جرحت عواطفك إني جد متألم لحادثك غير أنه لم يكترث لما قاله كان خلف لايزال يهز رجله وقد صوب نظره وأخذ يتأمل ساق العامل المبتورة. مزق الصمت صوت حسن صاحب المطعم وهو ينادي «يا ولد هات شاي» ثم أخذ يثرثر طوال الوقت «هذا مو شغل، الله يرحم أيام زمان، عندما كنت أعمل لوحدي في هذه القهوة»، كان يشير إلى أحد الزبائن، إذ إنه يعمل طوال اليوم بدون كسل، ثم يعود إلى غليونه ينفث الدخان ليتصاعد وهو ينظر إليه حانقا على زمانه الذي جعله هكذا مقعدا تحت رحمة هذا الخادم الكسول على حد تعبيره. هذه القهوة لا يؤمها الشباب وقد كانت في الأصل قهوة العمال الذين يعملون في البواخر لكن الجميع قد هجرها إلا أولئك المتقاعدين أوالمتقاعسين عن العمل وقد أدخل عليها حسن أخيرا تعديلات جديدة وأرفق بها مطعما صغيرا، وكان أحمد يذهب إليها لتناول الفطور عندما كان يعمل في البواخر الراسية في ميناء الدمام. كان يجد فيها متعة وكثيرا ما يتألم من الروايات التي يرويها بعض العمال من جراء حوادث العمل، يأتي بعض الشحاتين آخر النهار لكي يعدوا النقود ويودعونها عند المعلم حسن وكثيرا ما يشاهد الزبائن أحد أولئك الشحاتين وهو ضرير يتحسس الطريق بعصاه الملفوفة ببعض الخرق البالية والقذرة، إلى أن يصل إلى الدكة التي يجلس عليها المعلم ليجلس بجانبه ثم يدس يده بين ثنايا ثيابه المهلهلة ويخرج ربطة في منديل قذر ويتحسس النقود بيده المرتعشة ويحكها ليعلم من أي الفئات هي، بينما يحملق المعلم في النقود وهي في يد الشحات قبل أن يتسلمها. إن المعلم لا يريد أن يرى الزبائن ذلك المشهد، كانت صور كثيرة تتراقص أمام عين أحمد. غير أن الرجوع أخذ منه مأخذا. كان خلف يحملق بعينيه في طبق الكباب الذي وضعه الخادم أمام المعلم، وأخذ هذا بدوره يلتهمه بشراه متناهية ونهم زائد، كان أحمد يستشعر مقدار أنانية المعلم الذي لم يدعه لمشاركته في طعامه وكان ينظر إلى الطبق وهو يلتهمه بشهوه تظهر على تقاسيم وجه الطويل. كان أحمد لا يملك ولا درهما في جيبه. إن رائحة الكباب مشهية تفتح النفس ثم عاد أحمد يتفرس في وجه خلف، قال: «لماذا لا أبدأ معه الكلام إني أتذكر تلك الليلة التي حمل لنا صلاح صندوق (الجعة) و أخذ يوزع علينا و كلما انتهى صندوق ذهب ليجلب آخر، لقد شرب الجميع وقد اندفع خلف إلى حارس العمبر وصفعه على وجهه ثم أخد يركله برجله إلى أن أوشك أن يرميه في البحر، لولا أن تدارك الموقف بعض العمال». لقد ذهب أحمد إلى عربه كانت على ظهر السفينه والقى بنفسه بها، إذ إنه لم يقو على الحركة، كان أحمد هو المسئول عن الطعام وعندما استيقظ في الصباح كان الطباخ لايزال نائما، فأخذ يركله برجله فاستيقظ غاضبا، وأراد أن يصفع أحمد على وجه غير أنه أدار وجه والقى عليه أحمد مفتاح العلب التي كانت بيده وكان من حسن الحظ أنها سقطت في البحر ولم تصبه، كان خلف لايزال يتشاجر مع رئيس العمل حول سرقة أطعمة العمال وبيعها إلى أحد المقاولين، أوشك أن يقع في صدام عنيف، وقد هدده رئيس العمل بالترحيل إلى المدينة، تمر هذه الذكريات وخلف لايزال يحلمق في وجه أحمد، وهو يحرك رجله بعصبيه ثم بدء يعتدل في جلسته وأخد يعبث في بعض الأشياء الموضوعة على الطاوله التي أمامه. قال أظن أنك تعرفني، قال أحمد: «بدون شك لقد عملنا في البواخر في ميناء الدمام»، قال إنه عمل قذر كم من العمال ذهبوا صرعى الرافعات أو سقطوا في البحر غير أن الحاجه هي التي أعوزتنا إلى مثل هذا العمل، قال خلف إنه قد تعرض للموت أكثر من مرة ثم أخد يفتش عن بعض التعابير التي عادة ما يستعملها العمال، وذلك للتنفيس عن أنفسهم قال نحن الطبقة الكادحه نفتش عن الرغيف في دروب الحياة الصعبة نقاسي في الحصول على ذلك الخبز الممزوج بعرقنا وآلامنا ثم صمت بعض الوقت ثم قال ولكننا سنحرر الإنسان من الألم والشقاء عندما تتحد عمال العالم انظر إلى أولئك الذين يجمعون الأموال إنهم يجمعونها لا لشيء سوى من أجل الجمع ثم استعار كلمات لكارل ماكس «يجمعون لأجل الجمع و يكدسون لأجل التكديس». صمت خلف بعد ذلك واكتفى بالعبث ببعض الأدوات التي كانت على الطاولة. ثم تناول سيجارا من العلبة التي أمامه وأشعلها وأخذ نفسا طويلا ثم أخذ يرسل الدخان من فمه تباعا وهو ينظر إليه يتصاعد في المكان.
كان الجو لايزال باردا لا بد لأحمد أن يعود إلى المنزل لكي يضجع بعض الوقت قبل ذهابه إلى العمل، ودع أحمد خلف وانصرف. كان أحمد لا يحمل في رأسه أي فكر كما أنه قرر أن لا يدع للأفكار السوداء أن تعشعش في رأسه وأخذت الأيام تمر متتابعه مسرعه والناس يدورون حيث يجدون الرغيف وكثيرا ما تكون متباينه تتلون حيث تشاء ويعود أحمد مرة أخرى إلى الميناء حيث القاطرات و تفريغ البضائع. كان خلف يقوم بعمله كالمعتاد يسجل الماركات للبضاعة التي تفرغ من السفينة في دفتره، يقفز فوق تلك الصناديق لتسجيلها و من ثم إنزالها على القاطرات. هناك صندوق مرفوع في الهواء بواسطة الرافعة لم يسجله خلف، الماركة أسفل الصندوق، خلف يشير إلى صاحب الرافعة على مهلك حسوني وهذا بدوره يرد عليه زين عيني ينزل خلف لكي يكتب الماركه من أسفل الصندوق كان وزن الصندوق 2000 كيلوغرام صوت الرافعه البخاريه تلعلع مع القاطرات وصوتها يسد الآذان. لم يكن في الحسبان ما سيحدث إذ إنه لم يكد خلف يرفع طرفه إلى الصندوق لتسجيل الماركه حتى انقطع الحبل الفولاذي وكانت صرخه ذهبت مع الضجيج وأسدل الستار على عامل كان يكدح من أجل الرغيف بعد أن فقد عائلته في خليج توبلي قبل عام مضى.
العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ