يُتوقع أن يعلن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان غدا إعادة تكليف رئيس كتلة «لبنان أولا» النيابية سعد الحريري بتشكيل حكومة «الوحدة الوطنية». وإعادة التكليف جاءت بناء على استشارات رئاسية مع الكتل النيابية رجحت في نهايتها اسم الحريري ليقوم بمهمة تبدو شبه مستحيلة بسبب وجود مجموعة استحقاقات تنتظر بلاد الأرز والمنطقة في الفترة المقبلة.
الاستحقاقات ليست بسيطة لكونها تشتمل على مجموعة ملفات إقليمية ممتدة تتجاوز جغرافية لبنان ولا يمكن فصلها عن تجاذباته الأهلية. وبسبب ذاك الارتباط الشرطي بين بلاد الأرز ومحيطها الجغرافي - الإقليمي تصبح القراءة اللبنانية للملفات المشتركة نقطة قطع وفصل تتكثف في دائرتها مجموعة خيوط تمتد من مشروع إيران النووي وصولا إلى أزمة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والعثرات التي تواجه إدارة باراك أوباما وتعطل عليها الإسراع في الإعلان عن مبادرة الولايات المتحدة بشأن السلام في «الشرق الأوسط».
أزمة لبنان لا تقتصر على تأليف الحكومة ومقادير الحصص ونسبة توزيع الحقائب على الطوائف والمذاهب والمناطق والكتل. فهذه الأزمة هي ظاهر الصورة أما باطنها فهو يتشكل من مجموعة عناصر بعضها محلي المنشأ يتصل بطبيعة السلطة ونظامها التوافقي (المزيج الكيماوي) وبعضها يتعدى الساحة الجغرافية بحكم تنوع التركيب الديموغرافي للبلاد وتعدد التضاريس السكانية للدولة وامتدادها الإقليمي.
كل هذه الشبكة من الخيوط لا يستطيع رئيس الوزراء المكلف تجاهلها إذا شاء أن يتعامل مع أزمة لبنان في إطار رؤية تتعدى الحدود الجغرافية للبلاد. فهذه الشبكة مربوطة بمجموعة اعتبارات وتتحكم في مداخلها ومخارجها سلسلة من الحلقات التي يصعب تجاوزها من دون أخذ مواقعها الأهلية - الإقليمية في سياق التعاطي مع ملفات ساخنة تنتظر المعالجة في أكثر من محطة دولية.
الملف النووي الإيراني الذي بدأت الدول الكبرى بفتح أوراقه على طاولة الحوار لا يمكن تجاوز مطباته الأمنية في مرحلة يرجح أن تشهد المنطقة سلسلة منعطفات في التحالفات وخصوصا على مستوى التنسيق الثنائي في إطار المحور السوري - الإيراني.
الملف العراقي الأمني أيضا يرجح أن يدخل في طور سياسي مغاير بعد أن أخذت بلاد الرافدين تشهد تحركات تعكس اختلافات في طبيعة التحالفات الحزبية (الطائفية والمذهبية) عن المرحلة السابقة. والتعديل في خريطة التحالفات يكشف عن وجود متغيرات أهلية في علاقات القوى ما يؤشر إلى احتمال ظهور صورة سياسية لهوية العراق لا تتوافق بالضرورة مع الخريطة الفيدرالية - المناطقية التي اعتمدها الاحتلال الأميركي منذ العام 2003.
الملف الفلسطيني بدوره يمرّ في محطة مهمة تشتمل على مجموعة نقاط متوترة تبدأ بانقسام السلطة وتنتهي بإعادة إنتاج مشروع الدولة الواحدة بدلا من الدولتين في حال استمر الاحتلال في قضم الأراضي وسرقة المياه وتوسيع المستوطنات.
الملفات الثلاثة وغيرها ليست بعيدة عن الساحة اللبنانية المكشوفة تقليديا على المحيط الجغرافي ومجرى التحولات السياسية في الأقاليم. فهذه الملفات لا يمكن إغفالها في إطار سعي الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة الوطنية، لأنها من جانب تتصل مباشرة بالاستقرار اللبناني ومن جانب آخر هناك بعض الأوراق المحلية موصولة بالمتغيرات الإقليمية مهما كانت طبيعة تلك المتحولات. والساحة حين تكون مفتوحة وغير مضبوطة بالقواعد الدولية المتعارف عليها دستوريا بشأن الحرية والاستقلال والسيادة تصبح الاحتمالات موقوفة زمنيا حتى تتوضح معالم الصورة الإقليمية.
نجاح الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة الوطنية لا يخضع فقط لأحكام الدستور وشروط الداخل. فهذا الجانب مطلوب ولكنه ليس كافيا حتى تتوافق الشرائح الأهلية على الحصص والحقائب والأسماء. فالتوافق في أرقامه ونسبه لبناني الهيئة ولكنه ليس محليا في إشاراته ودلالاته. الجانب الإقليمي مهم في المعادلة اللبنانية وهو أحيانا يتجاوز النسبة المحلية في التركيبة الكيماوية لتعايش الطوائف وتساكن المذاهب.
مثلا إذا انتهى الملف الفلسطيني إلى التعثر وفشلت إدارة أوباما في الضغط على حكومة تل أبيب بتجميد الاستيطان، ولم تتوفق القاهرة في إبرام تسوية بين «حماس» في غزة و«فتح» في الضفة فإن التوتر السياسي الإقليمي يترشح للاستمرار والتوسع ما يضع لبنان أمام استحقاق لا يستطيع التهرب من موجباته المتصلة بالتوطين أو باستعادة ما تبقى من أراضي محتلة.
الأمر نفسه يمكن مقاربته مع الملف العراقي. فإذا اتجهت بلاد الرافدين إلى مزيد من التأزم الأمني وفشلت محاولات إعادة ترميم الدولة وذهبت الطوائف والمذاهب إلى مرابعها الجغرافية ومراجعها التقليدية سيتورط العراق في مشروع فيدرالي يرتب هيئته السياسية بحسب ما تقتضيه صورة الواقع. وهذا الاحتمال ليس مستبعدا في حال تواصلت الانقسامات والانشطارات إلى أن يقترب موعد الانتخابات النيابية في مطلع العام 2010. والاستحقاق المفصلي المذكور سيكون له تأثيره السلبي على الخريطة السكانية اللبنانية نظرا لذاك الترابط التقليدي بين بغداد وبيروت.
الموقع السوري أيضا لا يمكن عزله عن المتغيرات الإقليمية بحكم الجغرافيا والتاريخ وتداخل المصالح وتقاطعها. فالبوابة الدمشقية يمكن أن تفتح أزمة لبنان على المنطقة ويمكن أن تغلقها في الآن. وهذه البوابة تشكل أحيانا ذاك الممر الطبيعي لعبور الأزمات وفي الآن يمكن أن تعطل احتمالات العبور إذا لم تستبعد سورية من خريطة التحالفات الإقليمية. دمشق هي العازل السياسي بين بيروت وبغداد كذلك تلعب دور الوسيط الذي يربط العاصمتين امتدادا إلى طهران.
بهذا المعنى لا يمكن أن يتجاهل الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية ذاك الاختلاط في أوراق التحالفات الذي بدأ يفرض أشكاله على طبيعة المرحلة المقبلة في بلاد الرافدين. ومراقبة خريطة التحالفات في العراق مسألة مهمة لأن النتائج ستكون لها انعكاساتها السياسية في بلاد الأرز. فإذا أخرجت سورية من المعادلة العراقية واستبعدت من لعب دور «بوابة العرب» على بغداد فإن للأمر مجموعة مفاعيل إقليمية يمكن ملاحظة تأثيراتها من خلال خريطة التحالفات اللبنانية.
إضعاف الموقع السوري في العراق بدأ ينكشف على مجموعة متغيرات أخذت تظهر في صورة التحالفات الحزبية بعد «يوم الأربعاء الدامي» في بغداد. وتهميش بوابة دمشق في الدائرة العراقية ستكون له ارتداداته على بيروت في حال تطورت التجاذبات الإقليمية في فترة قلقة أخذت تشهد مرحلة انفتاح غير واضح المعالم بين واشنطن وطهران.
مسألة تشكيل الحكومة الوطنية (وحدة الطوائف) في لبنان ليست سهلة في حال قرر الرئيس الملكف قراءة الملفات الإقليمية وامتداداتها وتأثيراتها وانعكاساتها. فهذا البلد الصغير محكوم بالجغرافيا وتلك الممرات الطبيعية - السكانية التي تربط طوائفه ومذاهبه بمناطق ممتدة إلى خارج حدوده المتعارف عليها بالقانون الدولي. فالمسألة ليست بسيطة وتتجاوز النصوص الدستورية وتلك التعريفات لمفهوم السيادة والاستقلال والحرية. وهي أيضا تتخطى معادلة «الأكثرية» و«الأقلية» في المجلس النيابي أو التقسيمات السياسية بين معارضة (8 آذار) وموالاة (14 آذار).
المسألة مركبة من مجموعة زوايا لأن البلد الذي تتعايش فيه الطوائف وتتساكن في منظومته المذاهب لا يمكن إدارته بالأكثرية والأقلية أو بالمعارضة والموالاة. فالمعادلة حين تكون مرهونة بطبيعة المزج الكيماوي تصبح المختبرات مفتوحة على قنوات زجاجية ملونة ومكشوفة على متغيرات إقليمية تنتظر استحقاقات خطيرة حتى تستقر على قواعد يمكن البناء عليها لاحقا.
التكليف يتوقع أن يعلن غدا. وبغض النظر عن الرئيس المكلف تبدو المهمة صعبة في مرحلة أخذت تنكشف المنطقة (المحيط الجغرافي والأقاليم) على مجموعة استحقاقات لا تقل خطورة عن تداعيات سقوط بغداد في العام 2003.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2567 - الثلثاء 15 سبتمبر 2009م الموافق 25 رمضان 1430هـ
الحريه لو العبوديه
اذا كنت تأمن بالحريه السياسيه فهذه الحريه السياسيه .
واذا كنت مغرم بالادكتاتوريه فانت في ........ز
اخوكم عبد علي البصري