إذا جاء جمال مبارك إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة والمباشرة فما الضرر من وراء ذلك؟
إذا وصل أحمد علي عبدالله صالح إلى السلطة وبإجماع شعبي وبواسطة صندوق الاقتراع فأين «الجريمة» في ذلك؟
إذا تسلم الحكم سيف الإسلام القذافي وأمسك بزمام الدولة وقاد بلاده بأمان واستقرار وأيضا بالاستفتاء الشعبي فأين الإساءة بانتهاك الدستور والديمقراطية بذلك؟
من أول السطر ليأتي هؤلاء إلى حكم العروش بدلا من السقوط في وحول الانقلابات العسكرية كما يحدث في موريتانيا منذ سنوات أو تنتقل إلى هذه الدول عدوى الصومال الذي ينوء تحت أثقال الحروب الداخلية المنهكة والتي تكاد تقضي على أي أمل بعودته إلى الحالة الطبيعية أو تسترجع مشهد البلاغات العسكرية في الأنظمة الثورية.
لماذا هذا الخوف من التوريث الذي صار ينظر إليه كأنه وباء يجب التخلص منه وتصوير الأمر على أنه انتحار للأنظمة الجمهورية والديمقراطية، وخلق حالة من الانتفاضة الشعبية عند جماعات المعارضة التي ترفع شعار «لا للتوريث» في محاولة لإيهام الرأي العام أن البديل سيكون أرحم وأضمن من أولئك الأسماء الذين يقفون خلف آبائهم...
الواقعية تقتضي الحديث بصراحة... أين هي مصلحة هذه الدول في فتح الساحات للتقاتل على من يحكم بعد «رحيل» الرؤساء الحاليين أم يتم انتقال السلطة بسلاسة وأمان وتعطى لمن هم «أولى» من غيرهم الذين لا يُعرَف إلى أين سيقودون بلادهم وما هي السياسات التي سيتبعونها.
هؤلاء الثلاثة لم ينزلوا بالباراشوتات، بل هم حصيلة ونتاج بيئة طبيعية أتت بآبائهم، أي أنهم الوجه الآخر والمكمل لما هو قائم ومن سيأتي سيكون ضمن مواصفات الابن الشرعي لتلك البيئة.
قد يستغرب البعض هذا الطرح لكونه قفز على الدساتير والقوانين وبأنه عودة إلى الوراء لأن التوريث يناقض الحياة الديمقراطية التي تقضي بتداول السلطة عن طريق الانتخاب وممثلي الأمة، الحقيقة أن الموضوع يحتاج إلى الإفصاح عن ادعاءات حول الديمقراطية والنظم الجمهورية وعلى الطريقة العربية...
سيكون من الصعب هضم فكرة التمديد وتعديل بعض مواد الدستور من أجل بقاء الرئيس في منصبه وتحت عنوان أن الشعب يريد القائد وربما إلى الأبد... وبحجة أننا نعيش في ظل نظام ديمقراطي أو ثوري.
ففي هذه الممارسة إساءة للديمقراطية وتشويه لها بل دأب عدد من أصحاب الفكر السياسي على القول بأن التمايز بين تلك الدول ودول الخليج العربي يكمن بالنظام الديمقراطي الذي يمنع توريث الحكم كما هو قائم في المنطقة الخليجية.
الواقع يقول إن بقاء الرؤساء تلك المدد الطويلة في الحكم ليس فيه شيء من الديمقراطية وعليه سيكون الاعتراف بالحقيقة أقوى بكثير من الشعارات الفارغة.
جدل عقيم مازال قائما في الشارع العربي منذ سنوات ومنقسم على نفسه، بين من يؤيد التوريث وبين من يرفضه، فإذا كان من المؤيدين يوضع في خانة المعارضة والليبرالية، وإذا كان من الرافضين يصنف مع الرجعية ويحسب على مؤيدي الأنظمة الوراثية إلى ما هناك من تباينات ومنازعات.
من يحسم الأمر إذا، المؤسسات العسكرية والأمنية أم المجموعات الضاغطة واللوبيات التي تقف خلف الرؤساء وأبنائهم أم أن للقوى الدولية السياسية الفاعلة دورا ما في الاختيار؟
أيا كانت المجموعات الداعمة تبقى المسألة الأساسية هل يمكن القبول بأن يحكم أبناء الرؤساء وعلى قاعدة أهل مكة أدرى بشعابها أم يترك الأمر «للعملية الديمقراطية» وما قد يعتريها من تشوهات وعثرات.
الخريطة السياسية في مصر والأسماء المطروحة والمنافسة لجمال مبارك تشير إلى أنه يحظى بالدعم والمباركة والتأييد من المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان أو على الأقل لم يبدوا اعتراضات عليه وبالتالي فظروف نجاحه أقرب من غيره... وهذا ليس تبريرا للطرح الداعي للتوريث بل الأرضية السياسية القائمة في مصر وليبيا واليمن تصب في النهاية لصالح الأبناء أيا كانت قوة المعارضة أو القوى السياسية المتناحرة.
هناك جهد وعمل متواصل قطع مسافات طويلة من أجل إعداد وتهيئة الأبناء ومنذ سنوات وهم في قلب المعركة والحياة السياسية أعطت لهم أدوارا وملفات ومنحوا صلاحيات جعلتهم من الأرقام الصعبة جدا والمحاطين بمجموعات من أدوات الحكم والسلطة وفي مختلف الميادين وهو ما أعطاهم الثقل والوزن في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وباتوا في صدارة الحدث والحركة.
الراصد لسيرة جمال مبارك يلحظ وببساطة أن الرجل أعطي دور «المصلح» السياسي و «المحاور» الأول و «القيادي» الماهر، وهي صفات تتناسب والمهمة الجديدة التي تنتظره وتحت ظل الحزب الوطني الحاكم.
وفي موازاة هذا النغم الذي تجد صداه في ليبيا يظهر اسم سيف الإسلام القذافي النجل الثاني للزعيم، وبكونه صاحب مشروع «ليبيا الغد» الذي جعل من منهج الحوار أحد مشاريعه وأولوياته رغبة في إشراك جميع أبناء البلد في المسيرة التنموية، فقد صار محورا لحل المشاكل بحيث التفّت حوله الدوائر والمؤسسات.
لقد تلازم دور سيف الإسلام مع مسيرة والده بعد أربعين سنة من الحكم وهو بالمناسبة أقدم الحكام العرب بقاء على رأس السلطة، فالشارع الليبي يتعاطى معه من موقعه «ابن الرئيس والقائد» والذي كلف بمهام «عويصة» نجح في تحقيقها وإنجازها، فهو من يشار إليه بأنه استطاع ترميم العلاقات مع أميركا والغرب وتسوية ملف لوكيربي وتحويل ليبيا من دولة محاصرة ومقاطعة إلى دولة لديها مقعد داخل مجلس الأمن، وإلى صاحب مشروع الدستور الجديد الذي رفعه في إطار حزمة إصلاحات سياسية بالتوازي مع الإصلاحات الاقتصادية.
والنجل الثاني الذي أعلن عن نيته اعتزال العمل السياسي العام والتفرغ لبناء مجتمع مدني وإدارة مركز أبحاث وإصدار كتب في سويسرا يبدو اليوم أكثر قربا من الدور والموقع المرتقب الذي ينتظره بعد أن تلاشى إمكان قيام قوى وشخصيات ومجموعات تستطيع المنافسة في ميدان الحكم والرئاسة في مرحلة ما بعد القذافي الأب، فمؤسسة القذافي للتنمية وهي مؤسسة خيرية غير حكومية باتت اليوم في صلب الحكم والسلطة والقرار والمهندس الذي أعلن «اعتزاله» منذ مدة قريبة للشأن السياسي يجيد المناورات و «تحشيد» الرأي العام حوله إلى أن يحين الوقت المناسب للظهور من جديد.
والحال هذا يتماشى مع وضع العميد أحمد علي عبدالله صالح النجل الأكبر للرئيس وقائد الحرس الجمهوري المكلف بحماية النظام والقوات الخاصة كذلك يتداول على أساسه أنه الخليفة المرجح وأن الرئيس يميل إلى تقليد جيرانه في منطقة الخليج من ناحية توريث الأبناء من جيل الشباب وإلى القول بأن «أحمد» له الحق مثل أي مواطن يمني بالترشح للرئاسة والعمل على تعزيز مواقعه داخل المؤسسات العسكرية والأمنية وعند القبائل وأصحاب النفوذ الاقتصادي.
جيل جديد من القادة يجري التحضير لهم وبما يعني أن الحكام الحاليين يودون إعطاء الفرصة لتغيير الدماء من خلال أبنائهم الشباب والقادرين على التعاطي مع مقتضيات التغيير وأساليب الحكم.
الرهان على القادمين الجدد من الحكام هو شعار المرحلة المقبلة الذي أفصح عن رغبته بقدومهم الممثل عادل إمام بقوله «جمال مبارك من خلال رؤيته الشاملة وعمله في المطبخ السياسي وأمانة الحزب الوطني وعلاقتهما بالحكومة يسعى بكل إخلاص من أجل إعادة صياغة مستقبل الحياة على أرض مصر، يدعمه في ذلك الحزب الوطني وهو حزب الشعب وأكبر حزب في مصر» وعلشان كده «أنا شايف إن جمال مبارك هو الرجل المناسب لأمن واستقرار مصر في المرحلة القادمة» كما يضيف في حديث له مع مجلة «المصور» المصرية في العدد الأخير الصادر في الأسبوع الأول من هذا الشهر.
استقرت في الذهن صورة الأنظمة الوراثية المعروفة في الخليج العربي وفي مشرقه لكن الرأي العام لم يتآلف بعد مع النموذج الجديد للأنظمة ذات اللونين الديمقراطي والوراثي وهو ما سيفتح عهدا من الأنظمة على المقاس العربي القادم والله يستر من القادم!
العدد 2566 - الإثنين 14 سبتمبر 2009م الموافق 24 رمضان 1430هـ