أمس مضت ثماني سنوات على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. والجديد في المناسبة وجود الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض. فالرئيس الجديد للإدارة الأميركية يوجز الكثير من المتغيرات النمطية في الولايات المتحدة وموقعها الدولي ودورها في صوغ السياسة الخارجية.
هناك تحولات طرأت على العالم بعد تلك الهجمات التي هزت الدول والعواصم ودفعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ تدابير غير مسبوقة سواء على مستوى تعاملها مع الداخل الأميركي (ملاحقات، فرض رقابة على الحريات، التدخل في خصوصيات المواطن، كسر الكثير من القوانين المتعارف عليها) أو على مستوى تعاطيها مع الخارج (التفرد بالقرار، عدم احترام مصالح الدول، الإفراط في استخدام القوة، الانزلاق نحو ايديولوجية متطرفة حطمت الدبلوماسية التقليدية).
كل هذه المتغيرات حصلت في السنوات الماضية وبدأت روافدها تتجمع من مختلف الجهات حتى انتهت إلى محصلة اقتصادية كارثية تمثلت بانهيار أسواق المال وإفلاس المصارف والشركات وتبخر تريليونات من الدولارات في البورصات العالمية.
تصادف انفجار أزمة النقد العالمية في شهر سبتمبر العام الماضي. والمصادفة أطلقت إشارة ترمز إلى تلك الصلة الخفية بين طبيعة الهجمات والنتائج المتراكمة التي انتهت إليها مجموعة تداعيات تذرعت بسياسة الانتقام من الأطراف المتهمة بأنها القوى المدبرة لتلك العمليات التي أصابت الرموز الأميركية مقتلا.
بين سبتمبر 2001 وسبتمبر 2008 هناك خيط رفيع يربط المقدمة بالنتائج. فما حصل في أسواق المال من انهيار دولي يشبه ذاك الانهيار الذي دمر مركز التجارة العالمي في نيويورك وحطم أجزاء من مبنى البنتاغون (وزارة الدفاع). والصلة بين الطرفين تؤشر فعلا إلى حصول متغيرات أدت إلى تغيير معالم الصورة الأميركية في العالم. فالولايات المتحدة الآن ليست تلك الدولة العظمى التي تستطيع أن تفعل ما تشاء من دون رخصة دولية أو قوى أخرى تمتلك القدرات التي تعطي حق المطالبة بالمشاركة أو الاعتراض.
هذه المتغيرات في الاستراتيجية الدولية تكشف عن وجود عناصر خفية تدخلت حتى نجحت في ترسيم ضوابط تحد من تطرف الولايات المتحدة في سياسة التفرد باتخاذ قرارات مستقلة عن العالم. وحصول المتغير يؤكد من دون وجود أدلة دامغة نظريات «المؤامرة» أو «التواطؤ» أو تقاطع مصالح في دائرة معينة.
بغض النظر عن الشبهات التي تدل على طرف محدد يقف وراء الهجمات فإن محصلة الكارثة وتوابعها الاقتصادية والمالية تؤكد نجاح الجهات الخفية في تحقيق أغراضها من تلك الضربة التي فاقت كل الحسابات والتوقعات. فالطرف إذا كان «خارجيا» يكون نجح في استفزاز إدارة واشنطن واستدراجها إلى مناطق الضعف حتى يتمتع في استنزافها وتقطيع أوصال قواتها. وإذا كان الطرف «داخليا» فإنه يكون قد نجح بداية في تقديم ذريعة تبرر الخروج إلى العالم للانتقام والثأر من الإهانة التي تعرضت لها أكبر وأقوى دولة. وإذا كان هناك «تقاطع مصالح» بين الخارج الذي يريد الاستفزاز والاستدراج لكسر شوكة أميركا في مناطق نائية وبين الداخل الذي يريد تحريك عجلات الاقتصاد الحربي (مؤسسات التصنيع العسكري وشركات الطاقة، وأسواق النقد) فإن التحالف الموضعي نجح في تشكيل هيئة مشتركة تلبي حاجة الخارج لاستنزاف الولايات المتحدة وتغطي في الآن متطلبات الداخل لرفع موازنة الدفاع والإنفاق الحربي وتوسيع قاعدة الاستثمار في شركات التصنيع العسكري.
بغض النظر عن الجهة التي خططت ومولت وشاركت في تسهيل أو تنفيذ هجمات سبتمبر فإن النتائج المتخالفة تصب في نهاية تتشارك في إنتاجها مصالح معينة تقاطعت تاريخيا في المكان المناسب. والتقاطع في المكان (الولايات المتحدة) أعطى دفعة غير منظورة لتسريع حركة الزمان.
اختيار الأرض الأميركية مسرحا للهجمات لعب دوره الرئيس في تخزين الوقود والتسريع في تحريك العجلات والدفع بالآليات نحو الخروج والانكشاف دوليا وميدانيا. ولا شك في أن الأطراف أو الجهات التي حددت مكان الضربة تتمتع بمعرفة دقيقة وخبرة قديمة واطلاع صحيح على الشخصية الأميركية وتكوينها التاريخي وموقعها الجغرافي ودورها الاستراتيجي.
الضربة جاءت في الأمكنة الحساسة (مركز تجارة، مبنى دفاع) وموضع مفتوح لا يمكن التغطية عليه وتجاهله. واختيار المكان المكشوف كان لحظة مناسبة لكل المحطات الإعلامية وشبكات الإذاعة والفضائيات الأمر الذي أعطى فسحة للتأمل ومقارنة المشهد بتلك السيناريوهات التي برعت السينما الهوليودية في إنتاجها.
تداعيات المشهد الدرامي ساهمت في تشكيل ذاك المزج الكيماوي بين الواقع والمتخيل وأعطت العقل مجاله الحيوي للتحرك في إطارات تبالغ في القراءات والتحليلات والتفسيرات والتأويلات والفرضيات.
حتى الآن لم يتوقف العقل عن تخيل تداعيات المشهد والبناء عليه للخروج بمجموعة استنتاجات وتصورات تدور في إطار نظريات «المؤامرة» و«التواطؤ». فالمشهد كان أقوى من قدرة العقل على التحمل ما أعطى فرصة لنمو أفكار حائرة بين تصديق الصورة أو تكذيبها. فهل ما نراه صورة صحيحة أم مختلقة؟ وهل نحلم أم نعيش الواقع؟ وهل أميركا ضعيفة إلى حد أنها غير قادرة على حماية أمنها القومي ورموزها أم هي قوية وتحتاج إلى ذريعة لإظهار تلك القدرات الكامنة؟
أسئلة سبتمبر ستبقى موقوفة بانتظار أن يستقر التشويش الذي طرأ على الصورة الأميركية على مشهد ثابت يرسم زوايا جديدة لعالم آخر تولد خلال السنوات الثمان الماضية.
الرئيس أوباما وقف أمس دقيقة صمت حدادا على ضحايا الهجمات. والرئيس الذي يؤشر وجوده في البيت الأبيض إلى بداية تحول في الصورة النمطية للولايات المتحدة ورث حلقات من الأزمات في السلسلة الأميركية. فهذه الدولة الكبرى لا تزال كبرى ولكن الجهات «الداخلية» و«الخارجية» التي استفزتها واستدرجتها لحسابات ليست بالضرورة متطابقة نجحت على الأقل في اختيار المكان المناسب لتوجيه تلك الضربة. فالمسرح أعطى المشهد خصوبة فكرية تجاوزت حدود العقل وتزوجت المخيلة حتى وصلت إلى حد اختلاق سيناريوهات تمزج كيماويا بين «المؤامرة» و«التواطؤ» و«تقاطع المصالح».
أميركا للمرة الأولى في تاريخها ومنذ نهاية الحرب الأهلية بين الفيدراليين (الاتحاديين) والكونفدراليين (الانفصاليين) في ستينات القرن التاسع عشر تتلقى ضربة موجعة من الخارج على أرضها الأم. فهذه الدولة دخلت عشرات الحروب ولكنها كلها كانت في الخارج. الحرب العالمية الأولى جرت معاركها الكبرى في المسرح الأوروبي. والحرب العالمية الثانية كذلك. وكل الحروب الأخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كانت بعيدة عن أرضها وعمرانها ومؤسساتها وشركاتها وأبنيتها وسكانها.
هجمة سبتمبر كانت في المكان غير المتوقع وهي الأولى التي تسقط عليها من فوق (السماء) على الأرض (الأم) لتثير الفزع والمخاوف وتستفز المشاعر وترفع درجة حرارة الغضب وتحرض الشارع للخروج من القلعة دفاعا عن الحصن القومي وانكشافه أمام العالم. وبغض النظر عن الجهات والأطراف والشبكات التي أنتجت وأخرجت المشهد فإن القوة التي أشرفت على اختيار المكان والزمان نجحت في استدراج الدولة الأولى في العالم لمغادرة الملجأ والانتشار في مناطق الضعف وتحتاج الآن إلى مساعدة للحماية.
أمس مضت ثماني سنوات على 11 سبتمبر وأميركا التي نعرفها في العام 2001 ليست أميركا التي أخذنا نتعرف عليها من جديد. فالعالم منذ تلك اللحظة دخل في متغيرات أخذت رويدا تعيد رسم زوايا المشهد المتخيل في إطار صورة واقعية لا تزال في طور المتحولات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2563 - الجمعة 11 سبتمبر 2009م الموافق 21 رمضان 1430هـ