العدد 2562 - الخميس 10 سبتمبر 2009م الموافق 20 رمضان 1430هـ

قصة الفلسفة واكتساب المعرفة

صعود الفلسفة في زمن دولة الموحدين (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

على رغم غموض أفكار ابن طفيل في سياق تقييمه لآراء من سبقه من فلسفة وفلاسفة يعلن انحيازه إلى مشروع ابن سينا «إضافة ذلك إلى الآراء التي نبغت في زماننا هذا، ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة، حتى استقام لنا الحق أولا بطريق البحث والنظر، ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة» (ص 115).

بعد أن يوضح ابن طفيل رأيه بفلاسفة عصره ومن سبقه يبدأ بشرح منظومته بسياق روائي يرد على شخصيات ثلاث (حي وآسال وسلامان) استقاها من قصة ابن سينا القصيرة عن «حي بن يقظان».

تقوم فلسفة القصة على مجموعة نظريات مهمة أبرزها:

أولا، نظرية التولد الطبيعي. ينتج التولد عن تكافؤ القوى وتعادلها حين لا يحصل التغلب في العناصر. فالاعتدال هو أفضل الأشياء، والتوازن في العناصر (امتزاج الحار بالبارد والرطب باليابس في طينة من الأرض) على مر السنين يؤدي إلى الولادة لحظة حصول الانقسام في نقطة الضعف. بعدها تأتي الروح من الفيض الإلهي. فالروح «الذي هو من أمر الله تعالى، فياض أبدا على جميع الموجودات» (ص 124). الفيض إلى جانب تعادل القوى أو الفعل المتساوي يؤدي إلى التوازن. والتوازن يمنع الغلبة ويبطل إمكان تغلب أحد العناصر على قوة الآخر فيحصل ما يسميه تولد طبيعي من غير أم ولا أب (ص 123).

ثانيا، نظرية الاتصال بين عوالم الطبيعة وعالم الإنسان. فالتطور عنده هو حلقات متصلة النمو بين عناصر المعادن (التراب وغيره) وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الإنسان. فالاتصال هو الأساس وليس الانفصال وهو على مراتب من جمادات لا حياة لها، ونباتات، وحيوانات، وصولا إلى الإنسان. فهناك اتصال بين عالم الإنسان وعالم الحيوان. والاتصال يكشف حالات الشبه بين العالمين إضافة إلى حالات الافتراق. والتخيل عنده ليس شيئا «إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها» (ص 173).

ثالثا، الحركة والتطور والتحول. برأيه الحركة هي من أخص صفات الأجسام و«أن جميع ما على وجه الأرض لا يبقى على صورته» (ص 186). فكل شيء متغير لا يبقى على حاله. ويعود التحول إلى أن الأجسام مختلطة وهي مركبة من أشياء متضادة لذلك تؤول إلى الفساد باستثناء الذات الحقيقية فهي لا يمكن فسادها لأنها «ذاتا مفارقة بريئة عن المادة» (ص 212). وباستثناء الذات المفارقة للمادة كل المواد قابلة للاختلاف والتحول و «أن الحار منها يصير باردا، والبارد يصير حارا» (ص 151).

رابعا، تقابل المعرفة أو مرايا الانعكاس. فمشاهدة ذات الحق تظهر وكأنها «صورة الشمس التي تظهر في مرآة» ثم «تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة أخرى مقابلة للشمس». ثم «وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة» إلى أن ينتهي الأمر «إلى عالم الكون والفساد». وتظهر الذات وكأنها «صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها». ولا يصل إلى هذه المرتبة من المشاهدة و «لا يعقله إلا الواصلون العارفون» (ص 214). فالصورة عند ابن طفيل «لا ثبات لها إلا بثبات المرآة، فإذا فسدت المرآة صح فساد الصورة واضمحلت هي». لذلك لا يمكن اجتماع الدنيا والآخرة في حال واحدة «إذ الدنيا والآخرة كضرتين، إن أرضيت أحدهما أسخطت الأخرى» لذلك انقسمت «الذوات المفارقة» للمادة إلى صنفين فإن كانت لجسم دائم لا يفسد «كانت هي دائمة الوجود» وإن كان لجسم يؤول إلى الفساد كالحيوان والإنسان «فسدت هي واضمحلت وتلاشت». (ص 215).

خامسا، كروية الأرض وحركة الكواكب. يتناقض ابن طفيل في هذه المسألة ويقدم مجموعة ملاحظات متعارضة مع بعضها لإثبات نظرية التولد من طريق تعادل القوى وتوازنها. فهو يقول إن «الشمس في ذاتها غير حارة ولا الأرض أيضا تسخن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها». وبما أن الشمس عنده «كروية الشكل، وأن الأرض كذلك» وأن الفلك على شكل الكرة، وحركة الشمس على شكل الكرة يرى أن الضوء يغطي «أعظم من نصفها» وأشد «ما يكون الضوء في وسطه» و«حينئذ تكون الحرارة في ذلك الموضع أشد ما يكون» (ص 119-120). وبسبب ذاك التوازن بين الحرارة والبرودة يحدث التولد الطبيعي. ويعارض ابن طفيل نفسه عند حديثه عن الحركة ودوران الكواكب إذ إنها «كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق» (ص 184). وأن «الفلك يتحرك أبدا حركة لا نهاية لها ولا انقطاع» (ص 173). فالأشياء الكروية تتحرك عنده «كما تتحرك الأجسام السماوية» (ص 188). وحركتها تكون على ضربين فهي «متحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها» (ص 197). والحركة عنده تنقسم إلى أعلى وإلى أسفل ولا يعوقها إلا مانع يمنع حركتها صعودا ونزولا وهي «تارة شيء واحد وتارة كثيرة لا نهاية لها» (ص 153).

سادسا، تبعية الأدنى للأعلى. العالم المحسوس عنده تابع لا محالة للعالم الإلهي و«الكل مرتبط بعضه ببعض» (ص 216). كذلك تظهر عنده «سائر الأشياء الأرضية» فهي «جميعها شيء واحد في الحقيقة، وإن لحقتها الكثرة بوجه ما». فالأجسام «كلها شيء واحد: حيها وجمادها، متحركها وساكنها» (ص 152). إلا أن حقيقة كل واحد «مركبة من معنيين: أحدهما ما يقع فيه الاشتراك منهما جميعا (...) والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما على الآخر (...)» (ص 156). كذلك سائر الأجسام من الجمادات والأحياء فإن «حقيقة وجود كل واحد منهما مركبة (...) أما واحد، وأما أكثر من واحد (...)» (ص 157). فالجسم «بما هو جسم، مركب على الحقيقة من معنيين (...) وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر» (ص 161). وهي كلها (صور الأجسام) على اختلافها «لا تدرك بالحس، وإنما تدرك بضرب ما من النظر العقلي» (ص 157).

وردت كل هذه المفاهيم الفلسفية الخطيرة عن تعادل القوى (تولد) وقوة استعداد الجسم (تطور) واختبار القوة (التجربة) والوحدة والانقسام (الحركة) ليقول في النهاية أن «الروح واحد في ذاته (...) وسائر الأعضاء كلها كالآلات» تصدر عنها الأوصاف الكثيرة والأفعال المختلفة. فالحركات عنده متفقة من جهة ومتضادة من جهة لكن «الاتفاق واحد والاختلاف متكثر» (ص 148).

حتى يصل ابن طفيل إلى هذه النتيجة قام بتأليف قصة فلسفية استخدم فيها منطق الرواية واستعمل مفهوم المعرفة التجريبية التي تأتي من طريق الاكتساب وهو يتأتى بسبب الحاجة والتأمل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2562 - الخميس 10 سبتمبر 2009م الموافق 20 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً