سياسة المفاوضات المباشرة (وجها لوجه) بدأت تدخل رويدا غرفة العناية بعد ان تأخرت الردود من الأطراف المعنية ما أعطى فرصة لبقايا «تيار المحافظين الجدد» في واشنطن بتنظيم هجوم مضاد على الرئيس باراك أوباما. فالقوى المتشددة في الولايات المتحدة استفادت من فترة الوقت الضائع لتشن حملة سياسية على الإدارة بذريعة أن البيت الأبيض لا يمتلك خبرة ويعتمد تكتيكات مثالية بعيدة عن عالم الواقع.
الهجوم المضاد استفاد من حال الجمود الذي دخلته إدارة أوباما بعد سلسلة خطوات بادرت إليها واشنطن أظهرت مرونة في التعامل مع قضايا «الشرق الأوسط» وملفاته الساخنة. فالقوى المحافظة ارتبكت في مطلع عهد أوباما حين انكشفت دوليا بسبب ذاك الزخم الذي انطلق منه الرئيس الأميركي على مختلف الاتجاهات. وأدى الارتباك إلى تراجع تيار المحافظين عن المشهد السياسي تحسبا لنجاحات قد يحققها أوباما في ملفات فلسطين والعراق وإيران وافغانستان.
التيار المتطرف من عهد جورج بوش تخوف من احتمالات غير متوقعة قد تصدر متجاوبة مع سياسة الانفتاح واليد الممدودة المطالبة بفتح الملفات على طاولة المفاوضات المباشرة. وبسبب تلك التوقعات اضطر تيار المحافظين الجدد إلى السكوت والترقب حتى تتوضح الصورة. الطرف الوحيد الذي استمر في إطلاق التصريحات والتحذيرات والتحدي تمثل في خطابات ومقالات ومقابلات نائب الرئيس السابق ديك تشيني. فهذا شكل قوة ضغط مستندا إلى فريق في الكونغرس (أعضاء الحزب الجمهوري) للتهكم على إدارة الحزب الديمقراطي وإظهارها أمام الرأي الأميركي في موقع الضعيف الذي لا يفهم بالسياسة ولا يدرك مخاطر التساهل مع الخصوم في التعاطي مع ملفات خطيرة تمس المصالح والسيادة.
الردود من الجانب الآخر على فريق تشيني لم تكن بدورها متهاونة إذ وجهت الكثير من الملاحظات التي تنتقد أخطاء الإدارة السابقة مشيرة إلى الثغرات في التعامل السلبي مع القوى الأوروبية واستفزاز روسيا وعدم احترام الدول والإفراط في استخدام القوة لحسم القضايا المتنازع عليها.
استفادت إدارة أوباما من عزلة اميركا الدولية وتراجع مكانتها ودورها في التأثير على ترتيب السياسة الخارجية لإعادة تأسيس تصورات سياسية مضادة وراهنت على انتقاداتها لفترة بوش باعتبارها تشكل قاعدة صلبة ترفع سمعة الولايات المتحدة من تحت الأنقاض.
خطة التعويم التي اعتمدتها إدارة واشنطن راهنت على مجموعة مسلمات تأتي من الخارج وتسعف البيت الأبيض في عملية الإنقاذ. فالخطة التي اتصفت بالسرعة والحيوية والزخم بدأت في خطوة أخلاقية قادها أوباما تقوم على «الاعتذار» وإظهار الاستعداد للتغيير بشرط أن توافق القوى المعنية على الاستدارة والبدء في التفاوض المباشر والاقلاع عن تلك الاتصالات «الفنية» و«التقنية» الخفية.
أمام الهجوم الدبلوماسي - التصالحي تخوف تيار المحافظين الجدد من إمكان نجاح أوباما في خطة التعويم في حال استجابت القوى المعنية للمبادرة السلمية المتمثلة في دعوى اليد الممدودة وسياسة المفاوضات المباشرة (وجها لوجه) وعدم التلاعب بالأوراق من تحت الطاولة. وبسبب احتمال النجاح لجأت رموز التيار إلى الصمت باستثناء تشيني الذي راهن على الفشل متهما إدارة أوباما بالضعف وقلة الخبرة والتفريط بمصالح الولايات المتحدة وعدم فهم السياسة الدولية وكيفية إدارة الصراع في إطار العلاقات الخارجية.
هجوم تشيني على أوباما تأسس على فرضية تقوم على فكرة أن الأطراف المعنية بالانفتاح لن تسارع وستتأخر بالاستجابة لطروحات الإدارة الجديدة وستعتمد أسلوب المماطلة وسترفع درجة مطالبها ولن تتردد في صد اليد الممدودة وستغلق باب الحوار المفتوح لأنها ستشعر بأنها في موقع الأقوى أو انتصرت في كسر معادلة التوازن.
بداية لم تلق نظرية تشيني القبول ولم تنجح في إقناع مراكز القرار في واشنطن بإمكان حصولها. فالقوى التي أخذت تدير الملفات بعد عهد بوش توقعت أن تسارع تل ابيب وطهران و«القاعدة» و«طالبان» بالتجاوب وتبدأ بمد الجسور العلنية وفتح خطوط الهاتف على الهواء ولذلك راهنت على احتمال نجاحها في تطويق الأزمات واحتواء الملفات وتبريدها ردا على سوء ظن تشيني وربعه في واشنطن.
المسألة كانت معقدة ومتعرجة ولم تكن بسيطة كما توقعت إدارة أوباما. رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رد على مبادرة أوباما ومطالبته بتجميد الاستيطان والتفاوض مع السلطة الفلسطينية والدول العربية تمهيدا للتطبيع والسلام باتهام الرئيس الأميركي بالانحياز للعرب ومساندة الشعب الفلسطيني ومنع «إسرائيل» من حق توسيع المستوطنات لتلبية النمو السكاني في مناطق الاحتلال في القدس والضفة الغربية. الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تجاهل دعوات أوباما للحوار المباشر والمفاوضات العلنية المفتوحة مستخدما لغة ملتوية بين نعم ولا معتمدا نظرية أن إيران شريك أساسي في حل «مشكلات العالم». «طالبان» ترددت في الاستجابة وأخذت بتوسيع مجال نفوذها في باكستان وكادت أن تصل إلى مناطق حيوية تشكل خطرا على سيادة الدولة وأمنها. «القاعدة» اعتبرت شبكتها المجهولة غير معنية بوقف المعركة النهائية في مختلف الأمكنة التي قد تصل إليها. حتى الرئيس الفنزويلي الذي كان الأكثر اهتماما بالمبادرة الأميركية الإيجابية تردد في التجاوب وتأخر في التعامل الواضح مع واشنطن وأخذ يضع شروطه الخاصة للتعاطي مع السياسة الخارجية الجديدة.
كل هذه المؤشرات ساهمت في انعاش بقايا تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. فرموز هذه المدرسة المتشددة تراهن على فشل سياسة اليد الممدودة والانفتاح والحوار والمفاوضات المباشرة حتى تعيد الاعتبار لمواقعها السابقة بذريعة أنها لا تتحمل وحدها مسئولية ما حصل من إخفاقات في الإدارة الخارجية للملفات الساخنة. تشيني الذي رفض الصمت وواصل الرد سلبيا على كل خطوات أوباما اعتمد على تغافل أو تجاهل الأطراف المعنية لخطاب التسامح والاعتذار والاحترام المتبادل.
سكوت أو تأخر أو مطالبة العواصم والجهات المعنية بالعودة إلى تكتيك المفاوضات غير المباشرة والاتصالات السرية شكلت كلها مجموعة عناصر أعطت حيوية لمدرسة تشيني المتصلبة وأضعفت قدرة أوباما على تطوير دبلوماسية «اليد الممدودة» وأعادت إلى الساحة الدور الموكول لشبكات المخابرات التي تعمل تحت الأرض على خط مواز لوزارة الخارجية الأميركية. وهذه العودة يمكن أن تجدد منطق التشدد الأميركي أو ما يسمى بالمدرسة الواقعية التي ترفض التعامل بجدية مع مدرسة أوباما المثالية وخطبه الأخلاقية (التودد والاحترام والاعتذار) وما يترتب عليها من تنازلات وتفاهمات وتسويات معقولة ومقبولة من كل الأطراف.
عودة المدرسة الواقعية للنمو في قنوات إدارة أوباما لا تعني بالضرورة الارتداد إلى المربع الأول والبدء من جديد من حيث انتهى بوش وإنما قد تعني إعادة قراءة الملفات الساخنة من دون أوهام. وهذا الأمر في حال حصل فقد تشهد الساحات بداية خطوات سلبية ربما تساهم في خلط الأوراق وإعادة تدوير الزوايا حتى تتناسب مع الاحجام والقياسات من دون اضطرار للقطع مع فترة بوش السابقة إلا بالحدود البسيطة والمحدودة.
هناك مراجعة بدأت إدارة أوباما بإتخاذها وهي تستحق المراقبة للإطلاع على تفصيلاتها وخصوصا حين يبدأ المبعوث الأميركي جورج ميتشل جولته السبت المقبل إلى المنطقة لإعادة إحياء الملف الفلسطيني أو حين ينتهي وزير الخارجية منوشهر متقي من تسليم «الدول الست» رزمة اقتراحات إيرانية لتسوية «التحديات التي تواجهها البشرية». فهذه التفصيلات مضحكة/ مبكية ولكنها في النهاية تشكل ذاك الرد المتأخر على دعوة التفاوض المباشر (وجها لوجه) من خلال العودة الحذرة إلى اعتماد مدرسة ديك تشيني وتبني تكتيك الحوار في «الغرف السرية» والتلاعب الخطر بالأوراق من «تحت الطاولة».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2561 - الأربعاء 09 سبتمبر 2009م الموافق 19 رمضان 1430هـ