مقاربة الأزمة في إيران تواجه عقبات ايديولوجية تتراوح بين من يرفض النقاش في موضوع يصنف في دائرة «المقدسات» وبين من لا يقيم أي اعتبار لدولة مجاورة تجمعها مع المحيط ودول الجوار تلك المشتركات الجغرافية والتاريخية والدينية.
الاعتبارات الايديولوجية المحكومة بالإعجاب أو الكراهية تعطل تفكيك المشكلة وإعادة تركيبها انطلاقا من قراءة نقدية ترى في السياسة ذاك المجال الحيوي لحراك المجتمع.
إلا أن المسألة المنطقية تتجاوز في جوهرها الإطار الايديولوجي لأن المطلوب الاطلاع على ما حصل حتى نتعلم من تجربة تميزت بالخصوصية.
الأزمة المفتوحة في إيران تأسست على مراحل ثلاث: الأولى، قبل الانتخابات (تدخل الأجهزة في معركة التنافس وانحياز بعض أطرافها لوجهة نظر أو مترشح). الثانية، خلال الانتخابات (استخدام المال العام والملكيات التابعة للدولة لتوفير الدعم المفتوح لمترشح، ضعف الرقابة). الثالثة، بعد الانتخابات (الغموض الذي اكتنف الساعات الأولى من إعلان النتائج، تمنع وزير الداخلية من كشف جداول التصويت، ظهور ثغرات في نتائج القرى النائية التي شهدت كثافة في التصويت باتجاه واحد تجاوزت كل المقاييس).
المراحل الثلاث كشفت عن وجود ثغرة شجعت على ترجيح كفة احتمال التزوير أو تدوير النتائج. وتفاقمت المشكلة بعد رفض وزير الداخلية (المحصولي) الموافقة على إعطاء رخصة لقوى الاعتراض بالتظاهر والاحتجاج. وانعطفت الأزمة إلى حد التناقض حين تدخل «الحرس الثوري» وهدد باستخدام القوة لقمع أي تحرك معارض.
ما حصل كان بالإمكان تجاوزه أو احتواء تداعياته السلبية لو اتبع وزير الداخلية مواد الدستور وخصوصا المادة 27 التي تعطي الحق في الاعتراض والتظاهر. ولكن الرفض أدى إلى خروج الشارع وبدء مواجهة لم تكن محسوبة ولا متوقعة من السلطة أو قوى الاعتراض. المفاجأة أحدثت صدمة عند الطرفين وخصوصا حين تطور الصدام إلى مستوى العنف وسقوط الضحايا وحصول اعتقالات بلغت بحسب الإحصاء الرسمي أكثر من 4 آلاف.
المسألة إذا ليست متخيلة أو مفتعلة وهي نتاج انغلاق قنوات الاتصال الداخلية. وبهذا المعنى يمكن تغليب الرأي الذي يؤكد على العناصر المحلية للأزمة حتى لو حاول الخارج استغلال الانفجار وتوظيفه لأغراض لا تتناسب مع مصالح إيران (الدولة أو المجتمع).
الآن تبدو الأزمة في طريقها إلى الاستقرار على قاعدة تسوية مؤقتة وقلقة. والسبب أن المشكلة لم تعد موقوفة على حل لغز نتائج الانتخابات وإنما أصبحت مطروحة على مستوى أزمة نظام وعلاقات الدولة بالمجتمع وذاك الفائض من العنف الذي ظهر للمرة الأولى في إطار تلك الصلات التقليدية بين السلطة والشارع.
هناك نقطة مهمة برزت في سياق الاشتباك وهي نمو ذاك التعارض (المخاوف) بين السلطة والشارع. وهذا الجديد يؤشر إلى تخوف مراكز القوى (والقرار) من وجود بداية انعطاف في انفعالات الشارع. والشارع أيضا بدأ يظهر خطوات ارتدادية تكشف عن وجود نزعة تمرد أو عدم ثقة بالسلطة.
النقطة هذه خطيرة في جمهورية تأسست على أساس التعايش أو التصالح بين السلطة والشارع. ومجرد ظهور مثل هذه الحساسية في إيران يعني أن الثورة دخلت الآن في طور مغاير لتلك الصورة المألوفة عن المشهد السياسي خلال ثلاثة عقود.
هناك تحول ما غير واضح في صورته الرمادية. ولكنه يشجع على قراءة المسألة وتفكيكها من دون إفراط في التوقعات والاحتمالات. فالاستقرار لا يعني دائما دلالة على العافية والنمو والنهوض. كذلك عدم الاستقرار لا يؤشر إلى نوع من الانهيار. فالمبالغة في الاتجاهين تدفع نحو التسرع في الأخطاء والاستنتاجات.
نفي الأزمة خطأ والمراهنة عليها خطأ. وبين الإطارين يمكن رسم تصور يقوم على فرضية التحولات البنيوية التي طرأت على المجتمع والدولة خلال 30 سنة من عمر الثورة.
المتغير حصل كما يبدو في المجتمع ومصادر قوته وعلى الدولة ومصادر ثروتها. ولكن طبيعة هذا المتغير غير واضحة بسبب تشتت المعارضة إلى وجهات نظر تصل إلى درجة التناحر بين إسلامي وضد هوية الإسلام. كذلك بسبب ظهور إرهاصات اختلاف بين مراجع التقليد أخذت تتبلور في اجتهادات غير متوافقة على تقييم الأزمة وتقدير نهاياتها.
الاختلاف جيد. فهو يظهر حيوية سياسية في مجتمع قابل للاستيعاب والتطور. ولكن الاختلاف يحتاج إلى قنوات دستورية حتى يعطي ثماره الإيجابية ويمنع الانزلاق نحو التصادم.
هناك لاشك تحولات. ومحاولات نفيها لا يعني عدم حصولها. وتجاهل المتغير يؤدي دائما إلى نوع من الاسترخاء المصطنع الذي يعتمد على قناعات ايديولوجية جاهزة ومعلبة ويتجه نحو المكابرة والترفع عن الوقائع.
الأزمة ليست عيبا ولا مؤامرة وإنما هي نتاج التطور ودخول عناصر جديدة في إطار الدولة أو المجتمع. وهذه العناصر لا يمكن أن تكون نتاج الخارج لأنها أصلا مرتبطة بالاجتماع (البشر) ونمو نمط إنتاج على سكة اقتصادية كانت توازن بين الريع والبازار ولكنه الآن أخذ يتطور ليعزل شبكة الاتصال بين التقليدي والحديث.
توسع شبكة الاقتصاد ودخول الريف إلى المدينة واتساع دور الهامش على حساب المركز كلها عناصر ديموغرافية تساهم في تعديل التوازنات وتؤسس معالم هوية سياسية تحتاج إلى وقت للتعرف على مفاصلها وتوجهاتها.
هناك مساحة زمنية يمكن استثمارها لمتابعة ذاك الافتراق في التعامل مع نبض الشارع بين تيار متشدد يطالب بالملاحقة والمعاقبة وربما الاستئصال، وبين تيار معتدل يطلب العدالة والرأفة والتسامح تحت سقف القانون، وآخر يقرأ التوترات خارج سياق التحول الطبيعي الذي طرأ على الجمهورية في العقود الثلاثة.
اختلاف التعامل مع السلطة والجمهور يعكس في النهاية قواعد انطلاق لاجتهادات تتجاوز الفروقات الفقهية في تعريف طبيعة السلطة. فالاختلاف بدأ يؤشر إلى نمو مراكز قوى تدافع عن مصالح تعكس تلك الخريطة الإيرانية لفروع الإنتاج وصلتها بالمراجع.
الاختلاف في التصورات السياسية لا يمكن عزله عن تنامي التضاد بين اقتصاد الدولة (الريع) والشبكة التقليدية لمواقع الإنتاج الحرفية والمهنية (السوق/ البازار). والتضاد في فروع الدخل يؤسس منطلقات نظرية للتعامل مع القوى المنتجة ومخاوفها من احتمال توجه السلطة إلى نوع من التمركز الاقتصادي وحاجته إلى قوة مركزية تضبط التنوع في دائرة متشددة تشجع على نوع من الانغلاق والعسكرة والحدّ من الحريات.
قراءة الأزمة الإيرانية من الداخل تحتاج إلى رؤية نقدية تتخطى الممنوعات الايديولوجية. ومثل هذه القراءة تبدأ بالمراجعة التاريخية والمقارنة بين محطة وأخرى حتى تتوصل إلى إحاطة بكل عناصر المشكلة. وغير ذلك يصبح احتمال الوقوع في مطب التجاهل مسألة محتملة ولكنها مضرة وغير مفيدة للتعلم من التجربة ودروسها.
* المقال كلمة ألقيت في مقر جمعية «المنبر الديمقراطي التقدمي» الأحد الماضي، مدينة عيسى.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2560 - الثلثاء 08 سبتمبر 2009م الموافق 18 رمضان 1430هـ