العدد 2559 - الإثنين 07 سبتمبر 2009م الموافق 17 رمضان 1430هـ

الترجمة من اللغة العبرية وضرورة تصحيح المفاهيم والاستراتيجيات

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

عندما هزمت مصر ومن ثم العرب جميعا في العام 1967، اكتشف عدد من المفكرين العرب والمصريين المستنيرين وفي مقدمتهم الكاتب المشهور أحمد بهاء الدين حجم الجهل المصري خصوصا والعربي عموما عما يحدث في «إسرائيل». وأضيف ان هذا الجهل للأسف مازال قائما حتى الآن.

حيث كانت ومازالت معلوماتنا وهمية وتعبر عن مفاهيم قديمة وآراء مغلوطة ولذلك ظللنا لسنوات كثيرة نسميها «إسرائيل» المزعومة. ولذلك حدث في مصر آنذاك تطوران:

أولهما: إنشاء مركز الدراسات الاسرائيلية في مؤسسة الاهرام والذي تحول بعد ذلك إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وبعد بضعة سنوات صدرت النشرة الموسومة (مختارات إسرائيلية).

ثانيهما: المقولة المشهورة المنسوبة لأحمد بهاء الدين بأن صراعنا مع «إسرائيل» صراع حضاري، ومن ثم لابد من ان نطور مفاهيمنا الحضارية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر العربي والثقافة، ولكن للأسف على رغم انتصار في حرب أكتوبر وإقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع «إسرائيل» فإن المد الشعبي لم يكن على مستوى الاستعداد للتعامل مع «إسرائيل»، كما ان عددا من النخب تمشيا مع هذا لم تواتيهم الشجاعة الادبية لقيادة عمل فكري وثقافي حقيقي تحت مقولة رفض التطبيع. في حين ان المركز الاكاديمي الاسرائيلي في القاهرة كان يدرس كل كبيرة وصغيرة في مصر.

وفي تقديري ان المسألة التي تتعلق بالتطبيع تختلف عن تلك المتعلقة بضرورة معرفة ما يحدث على الجانب الآخر من الحدود، وان عملية خلط المفاهيم هي للأسف أحد مظاهر الثقافة العربية غير الواثقة من نفسها، والرافضة لكل شيء، والحريصة على الشعارات التي تستميل الشعوب وتخاطب عواطفها بدلا من مخاطبة عقولها وقيادة التغير السياسي والاجتماعي والثقافي بأسلوب علمي رشيد.

ومن ثم فإنه من الضروري ابداء مجموعة من الملاحظات العامة التي تتعلق بـ «إسرائيل» وعلاقاتها مع العرب والفلسطينيين والمجتمع الدولي، والأهم من ذلك هو علاقتها مع مصر باعتبارها دولة رائدة وصاحبة دور في المنطقة.

الملاحظة الأولى: وهي نابعة من مقولة المفكر أحمد بهاء الدين وغيره، وهي أن الصراع بين مصر و «إسرائيل» هو صراع حضاري. وأضيف لذلك أنه صراع طويل الأمد، لم ولن يتوقف عند معاهدة السلام، ولا حتى الوصول لحل شامل للقضية الفلسطينية - بافتراض حدوث معجزة تحقق ذلك - ولعل أهم دوافع استمرارية مثل هذا الصراع، انه صراع على الدور والمكانة، فـ «إسرائيل» تسعى لتكون ركيزة التطور والسياسة في الشرق الأوسط، والمنافس الوحيد لها هو مصر، لثقلها وعمقها التاريخي، وقوتها الاستراتيجية الحقيقية مهما كانت ظروفها الراهنة. ولذلك فإن حشود «إسرائيل» على جبهة سيناء على رغم معاهدة السلام أكثر من حشودها على الجبهة السورية على رغم عدم التوصل لسلام. وأي حركة صغيرة أو كبيرة في مصر ترصدها «إسرائيل» وتعمل على احباط كل ما هو في مصلحة مصر سواء في اميركا أو في أوروبا أو في إفريقيا وخصوصا في دول حوض النيل وعلاقة «إسرائيل» بهذه الدول وثيقة.

الملاحظة الثانية: هي انه لم يثبت تاريخيا ولا علميا إمكان التصارع أو حتى التنافس مع الخصوم من دون التعرف عليهم، فالولايات المتحدة انشأت الكثير من مراكز الابحاث عن الصين لترصد كل شيء لديها في مرحلة ما قبل إقامة العلاقات، ومازالت مثل هذه المراكز قائمة بعد ذلك. والصين بدورها تفعل الشيء نفسه، و «إسرائيل» تفعل ذلك مع الصين ولديها 7 مراكز أبحاث عن الصين وتفعل ذلك مع الهند وغيرها من القوى الصاعدة.

نحن للأسف لدينا العكس، فالدراسات الصينية لا تحظى بالاهتمام من السياسيين، والدراسات الهندية محدودة، بل والدراسات عن أوروبا أو الولايات المتحدة تكاد تكون معدودة على أصابع اليد الواحدة، وكثير منها مرتبط بمصالح معينة للباحثين أو لرجال الاعمال. أما بالنسبة إلى «إسرائيل» فكأنها الشيطان الرجيم وعلى رغم أن معرفة الشيطان وأساليبه وألاعيبه ضرورية للمقاومة، فنحن نستسلم للأوهام ونتركه يعبث بحياتنا. ونكتفي بتوجيه اللعنات عليه، ولا أعتقد أن ذلك هو الاسلوب الرشيد.

الملاحظة الثالثة: ان هناك من الشعارات التي هي حق، ولكن قصد بها الباطل، ولعل رفع شعار (لا حكم إلا لله) ورفع المصاحف على أسنة الرماح في الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، خير نموذج تقليدي للمقولات الصادقة التي يقصد بها التشويش والاساءة والنية العكسية. وفي تقديري أن الشيء نفسه ينطبق على شعار التطبيع فهو شعار سليم ولكن مردوه بالغ السوء علينا قبل أن يكون على «إسرائيل». فهي تعرف عنا الكثير ونحن لا نعرف سوى الفتات، إن القرن الحادي والعشرين هو قرن العقلانية، ولا عقلانية من دون معلومات سليمة وحقيقية، وهذه لا يمكن الوصول إليها الا عبر مراكز الابحاث، وعبر الاتصال والاحتكاك والتفاعل، وإلا كانت معلومات غير مدققة وبحثا من الابراج العاجية من خلال المراجع وليس من خلال التعرف الحقيقي على الواقع الفعلي.

الملاحظة الرابعة: ان الفلسطينيين أكثر ذكاء في هذه الناحية من المصريين لأن الذين يعيشون تحت الاحتلال يتعلمون لغته ويعرفون أساليبه، ولكنهم أقل تفاعلا وعقلانية لوقوع قياداتهم أو بعضها في أوهام سياسية غير قابلة للتحقيق، وتحت مؤثرات خارجية من بعض الدول العربية أو الاسلامية للارتباطات المذهبية والايديولوجية والطائفية. وتأثيرهم محدود، ولاتزال الساحة متروكة للمزايدين والحالمين البعيدين عن الواقع.

الملاحظة الخامسة: انني ادرك ان هناك بعض المثقفين المصريين بعرفون بل وتخصصوا في «إسرائيل» وفكرها، ولكن من قراءاتي لكتابات المغفور له عبدالوهاب المسيري وكتابات البحراوي وغيرها فإن تأثير المزاج العام سيطر عليهم أكثر مما سيطروا هم، وقادوه إلى الرشد الفكري، وأدى ذلك إلى تحول كتاباتهم للسياسة بدلا من البحث العلمي أو على الأقل في بعض منها.

الملاحظة السادسة: إن مطبوعة الاهرام مثل (مختارات إسرائيلية) تقدم خدمة جيدة ولكنها غير كافية، ثم أن مؤسسات اتخاذ القرار لا تعطيها ما تستحق من الاهتمام. وظلت السياسة المصرية خاصة والعربية عامة وقراراتها تهتم بارضاء الجانب الاميركي كطرف رئيسي في العلاقات مع «إسرائيل». ولهذا فإن تأثير مصر على القرار الاسرائيلي والرأي العام الاسرائيلي محدود، وفي دائرة الشكليات بلقاءات بعض الرسميين أو بعض السياسيين.

ما هو المطلوب إذا؟ في تقديري أن مبدأ معرفة العدو أو الخصم أو المنافس الاستراتيجي لأية دولة هو نقطة الانطلاق. ولقد كان خطاب أوباما في جامعة القاهرة واضحا في قوله (إن من يتصور زوال «إسرائيل» فإنه يعيش في الأوهام)، وهذه حقيقة تستند لعدة اعتبارات منها: الاعتراف الدولي بـ «إسرائيل»، قوة الايديولوجية الاسرائيلية، وتماسك المجتمع في أطروحاته الاساسية، القوة العسكرية الاسرائيلية، القوة التكنولوجية والعلمية، الارتباطات السياسية الخارجية لـ «إسرائيل»، استخدام «إسرائيل» أدوات الدعاية والاعلام، وأدوات المال والمؤسسات المالية والدولية. وأخيرا وليس آخرا، الرؤية الاستراتيجية الاسرائيلية التي تركز على دراسة المستقبل والقوى الدولية الصاعدة بعد 20 - 50 عاما، وتخطط للتأثير عليها. في حين ان الموقف العربي على عكس ذلك تماما.

يكفي الإشارة إلى أربع وقائع:

الأولى: اختراق «إسرائيل» للصين والهند وهما كانا من أكثر المناصرين للقضايا العربية والعرب بجميع دولهم غير قادرين على التعامل الفعال مع ذلك.

الثانية: اختراق «إسرائيل» لبعض الدول الخليجية بدرجات متفاوتة وخصوصا في المجال الاعلامي.

الثالثة: اختراق فكري وسياسي ودعائي للدول العربية الاخرى بما فيها دول لا تقيم علاقات مع «إسرائيل». ولعل أحدث الاختراقات في منطقة كردستان العراق والعلاقات الكردية الاسرائيلية قديمة ولكنه الآن أكثر تطورا ووضوحا.

الرابعة: اختراق «إسرائيل» لتركيا التي ترتبط وإياها بعلاقات استراتيجية وتجري معها مناورات عسكرية على الاراضي التركية كما حدث في أغسطس/ آب 2009 بغض النظر عن الشعارات الاسلامية والحركات الدعائية التي تقوم بها بعض القيادات التركية مثل خروج رئيس الوزراء التركي من اجتماع دولي كان فيه الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز احتجاجا على عدم اعطاء رئيس الندوة الكلمة لرئيس وزراء تركيا للرد على الرئيس الاسرائيلي. وكذلك الأمر مع دول حوض النيل، بعبارة أخرى ان هناك حالة من الحصار للعالم العربي في اخطر مصدر لحياته وهو مورد المياه في نهر النيل ونهري دجلة والفرات فضلا عن حصارها الأمني والسياسي لأية تحركات أو اتصالات عربية مع أية قوة دولية.

ولابد من مناقشة علمية هادئة وبعيدة عن الغوغائية حول معنى التطبيع وبين ضرورات التخطيط الاستراتيجي للتنافس الحقيقي مع الخصوم، وتقييم قدراتهم السليمة، وقدراتنا حتى لا نستيقظ يوما ونجد انفسنا مهمشين أكثر مما نحن عليه، وضعفاء أكثر من ضعفنا الراهن، وإرادتنا مسلوبة أكثر مما هي الآن، وتسيطر «إسرائيل» علينا بطريقة عملية في عصر الأقمار الاصطناعية والسوبر كمبيوتر والسماوات المفتوحة وخرائط غوغل التي تكشف كل شيء لدينا بخلاف ما لدى «إسرائيل».

ان الدور العربي الحقيقي وليس الدعائي أو الذي يحبط فيه كل زعيم عربي تحركات وعمل الزعماء الآخرين كما ان دور مصر محوري ولابد من إعادة نظر حقيقية استراتيجية تجاه مواقفنا الخاصة بـ «إسرائيل» ومع دول حوض النيل ومع عالمنا العربي ومع القوى الصاعدة مثل الصين والهند، ولابد من ان يكون لنا مصداقية مع انفسنا اذا أردنا ان يحترمنا الآخرون، ويعترفون بدورنا، ويحسبون له ألف حساب، والا فلا عزاء للمزايدين والخائفين والمرجفين. وسيتحول العالم العربي إلى ولايات ملوك الطوائف في الاندلس يزدادون ضعفا ويتحالف بعضهم مع الاعداء ضد اخوانهم العرب وفي النهاية لا يلومن العرب شعوبا ونخبا وحكاما إلا انفسهم ولا ينبغي للعرب ان يفكروا بمنطق تعامل بني «إسرائيل» مع سيدنا موسى - في تعاملهم مع الدولة العربية الكبرى - بمقولة اذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون - وإنما يقولون نحن معك لمواجهة حقيقية للعدو بأموالنا وبجنودنا وبامكاناتنا العسكرية وبمواقعنا الاستراتيجية كما لا ينبغي لهم ان يعيشوا في حالة استدعاء التاريخ الاسلامي والعربي القديم حيث كانت الفرق والملل والمذاهب الاسلامية تتناحر مع بعضها بعضا في عصر الدولة العباسية وما بعدها ويتحولون الآن لنشر هذا المذهب الديني أو ذاك في تلك الدولة الاسلامية أو العربية أو غيرها ومن ثم يعملون على تأجيج صراعات طائفية ودينية في كل دولة عربية لا تخدم في النهاية الا اعداء العرب والمسلمين. اننا لسنا في عصر الفتوحات الاسلامية لبلاد المسلمين أو تحويل المسلمين إلى هذه الطائفة أو تلك ان هذا لا يعكس سوى المطامع السياسية ضيقة الأفق والتي تدمر الجميع وتشعل الفتن في مختلف الدول.

إنه عندما اطلق وزير الخارجية البحريني مبادرة للأمن الاقليمي في خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2008 اعترض عليها الكثيرون قبل ان يقرأوها ويفهموا مغزاها الاستراتيجي في إطار الدبلوماسية النشطة الديناميكية ونفس رد الفعل العربي عندما أطلق ولي عهد البحرين صاحب السمو الشيخ سلمان بن حمد دعوته في مقال نشرته «الواشنطن بوست» في يوليو/ تموز 2009 ورد الفعل السلبي هو تعبير عن العجز وقصر النظر وكأن العرب يكتفون بإطلاق الشعارات العامة التي تعبر عن مطالبهم ومبادئهم ويتصورون ان العدو سيستجيب لهم. انه من الضروري استخدام الادوات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وغيرها من الأدوات للدفاع عن المصالح ولتحقيق الطموحات ومن الضروري فهم مغزى الحركة والتصريحات السياسي في عصر يلعب فيه الاعلام السياسي دورا بالغ الأهمية والخطورة وقبل كل هذا فمن الضروري معرفة كيف يفكر العدو وماذا يقول عنا في كتبه وفي الدراسات وفي وسائل اعلامه حتى يمكن الرد عليه بنفس منطقه انه يثير العالم ضدنا بدعوى نشر مقال هنا أو هناك يرى فيه معاداة السامية، والحقيقة انه معاداة لسياسات «إسرائيل» العدوانية وهو يملأ صحفه وكتبه الدراسية ومطبوعاته بما هو أكثر سوءا ضد العرب والفلسطينيين مما نكتب نحن عنه ولكننا نتفرغ للأسف للعمل ضد بعضنا بعضا ويتفرغ الفلسطينيون للعمل والتشاحن ما بين فتح وحماس على سلطة وهمية وكأن فلسطين قد تحررت أو ان القدس قد عادت إلى فلسطين وشعبها أو ان منظمة المؤتمر الاسلامي قد حررت القدس وهي المنظمة التي قامت في اعقاب الحريق الذي تعرض له المسجد الاقصى العام 1969 ومضت الآن أربعون سنة ولم يتحقق شيء بفضل الشعارات الغوغائية والعجز العربي والإسلامي.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2559 - الإثنين 07 سبتمبر 2009م الموافق 17 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً