العدد 2307 - الإثنين 29 ديسمبر 2008م الموافق 01 محرم 1430هـ

بين غزة وبغداد ودارفور

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في غدر صهيوني أعمى، وضمير ميت يرفض أن يصحو من حقد راكمه عبر قرون من التعبئة الموتورة، شنت إسرائيل غاراتها على غزة الأسيرة المحاصرة منذ زمن فشل الجميع في التأريخ له. غارة وحشية لم تميز بين السن أو الجنس، فاستهدفت غزة بكاملها، وكأنها تريد أن تقول للعالم أجمع إن الحصار وحده، على رغم ما خلفه من مآس ودمار لكنه، لا يشفي الغل الصهيوني، ولا يطفئ نار الحقد المتأججة في دهاليز المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة.

هل كان المطلوب من غزة أن تدفع هذه الفاتورة الباهضة الثمن كي نصحو؟، فنتذكر أن هناك أهلا لنا في غزة ينحرون يوميا، أو كي تسمح لنا تل أبيب بأن نتظاهر أو نعبر عن مشاعر التأييد والتضامن مع أبناء غزة الذين لم يرتكبوا أي جنح سوى أنهم ينتمون إلى شعب فلسطين الذي كتب عليه أن يتكبد عنجهية المؤسسة الصهيونية المدعومة بالصمت الدولي، والمعززة بالموافقة المبطنة للنظام العربي.

المشهد الغزاوي، على رغم مأساويته، لكنه بالمقابل ليس فيه من جديد، إذ لو قدر لنا استعراض تاريخ الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، في الفترة التي أعقبت قيام الدولة العبرية، فستتزاحم المشاهد التي تعبر عن مجازر من نمط التي شهدناها قبل يومين. فمسرحية البربرية الصهيونية لم يتوقف عرضها منذ ما يزيد على نصف قرن. تختلف الأسلحة، ويتبادل الممثلون الأدوار. لكن البداية والنهاية تبقى واحدة.

المشهد الآخر المتوقع هو على المسرح العربي، والذي لم يتغير، سيجتمع الحكام العرب، وستنتفض الجماهير العربية، ستصدر البيانات، وتقتحم السفارات، وتتبادل الاتهامات، وستتلى التنصلات، وتتلى القصائد في المهرجانات، وستطير البرقيات والفاكسات. مسرحية رتيبة سئمتها أعين المشاهدين، وأهترأت منصة المسرح، من كثر ما وطأتها أقدام الممثلين.

يبقى السؤال قائما: على من تقع مسئولية هذه المجازر التي ترتكب بحق المواطن العربي في فلسطين؟ إلقاء اللوم على المؤسسة الصهيونية وحلفائها من أميركان وأوروبيين وحتى عرب، ربما فيه شيء من الترويح عن النفس، وإعفائها من المسئولية. لكن، وكما يبدو فإن المسألة أعمق من ذلك بكثير. فلو تركنا غزة تلعق جراحها، وأهل غزة يلأمون جراحهم ويدفنون شهداءهم، واستدرنا جنوبا نحو بغداد، فسنفاجأ حين نكتشف أن المجازر ترتكب يوميا، لكن أيدي مجرميها ليسوا صهاينة ولا عملاء إسرائيل. فالاقتتال هناك بين عرب بل ومسلمين، يقتلون بعضهم بعضا ويرفضون أن يصحو ضميرهم كي لا يكتشفوا أن القتيل والمقتول ينتميان للقومية ذاتها والدين نفسه، وربما الملة.

ليس الغرض هنا إلغاء التهمة عن إسرائيل أو تبرير ما قامت وما سوف تقوم بأسوأ منه في غزة وربما في مدن فلسطينية أخرى، بقدر ما هو لفت النظر إلى المشكلة التي نعاني منها نحن العرب، الذين تسيرنا عواطفنا قبل عقولنا، وتحكمنا اللحظة الآنية القصيرة الأجل، بدلا عن الرؤية المستقبلية الطويلة المدى.

وقبل غزة وبغداد كانت دارفور والمجازر التي ارتكبت بحق أهلها. ربما في وسعنا أن نسوق الكثير من الأسباب والمبررات والعوامل الخارجية التي قادت في نهاية المطاف إلى تلك المجازر. بشكل أدق سنلوم الجميع باستثناء أنفسنا. سنكيل الاتهامات إلى القوى الخارجية، ومن بينها المؤسسة الصهيونية، كي نبقي على طهرانيتنا وتنصلنا من المسئولية.

ولماذا نذهب عن غزة بعيدا إلى بغداد أو دارفور، أليست بيروت أقرب إليها منهما، هل محت السنون الاحتلال الصهيوني لبيروت في العام 1982، تحت أنظار النظام العربي، الذي يشمل المعارضة العربية قبل حكامها، وما تخلله من مجازر ارتكبتها آلة الحرب الصهيونية بحق أهلنا في المخيمات الفلسطينية والمدن اللبنانية، توجتها جميعا بمجزرة صبرا وشتيلا.

لا نريد أن تكون الصورة سوداوية، والمستقبل مظلم، لكن الحقائق المرة تقول إن الزمن يكرس «إسرائيل» لأنها مصممة على البقاء، ولديها مشروع متكامل يحمي هذا البقاء ويحافظ عليه، ويضمن استمراره من خلال تأقلمه مع مستجدات العلاقات الدولية والسياسات الإقليمية، في حين الحقائق المرة ذاتها تقول، إن العرب، ومن بينهم الفلسطينيون، لا يملكون أكثر من الاستمرار في العيش، القائم على ردة الفعل، أكثر منه الفعل، والذي لا تتجاوز تأثيراته المشاهد التي ذكرناها، والتي لا تعدو كونها تنفيسا للأزمة بدلا عن معالجة أسبابها.

الحقيقة التي يتجاهلها، بوعي أو بدون وعي، ذلك النظام العربي بحكامه ومعارضته هي أن قرار مواجهة، أو حتى التعايش مع، الدولة العبرية، هو قرار استراتيجي، يتجاوز المشروعات الآنية الباحثة عن مهدئات، هذا القرار الاستراتيجي، لا تنحصر آفاقه في الجانب العسكري فحسب، بل تتجاوز ذلك كي تمس وبعمق الجوانب الاقتصادية والمالية والسياسية في آن. ومن هنا فإن الأسلحة التي يحتاجها ذلك القرار ليس من طبيعة عسكرية فقط، بقدر ما هي نظام تتكامل فيه مؤسسات النظام العربي من عسكرية واقتصادية واجتماعية، نظام تذوب فيه الفوارق بين المعارضة والسلطة، وتتلاشى في بوتقته الحدود بين المتخالفين، كي تحل مكانها رؤية استراتيجية واحدة، أو حتى رؤى استراتيجية، لكنها متكاملة، عوضا عن أن تكون متعارضة، إلى درجة قد تصل إلى حدود التناحر.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2307 - الإثنين 29 ديسمبر 2008م الموافق 01 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً