طرحت الغارة «الأطلسية» على صهريج وقود خطفه مقاتلون من «طالبان» في ولاية قنذور وقتلت 90 شخصا غالبيتهم من المدنيين السؤال عن جدوى مكافحة «الإرهاب» وملاحقة خلاياه جوا. فالغارة التي أخطأت في إصابة الهدف ليست الأولى من نوعها. هناك عشرات بل مئات الأخطاء التي ارتكبتها قوات الحلف الأطلسي ضد المدنيين والقرى النائية والمدارس والمستشفيات والأسواق التجارية والكهوف وغيرها من مراكز آهلة بالسكان الأبرياء.
إلى متى ستستمر هذه الاستراتيجية الغبية في مطاردة «الإرهاب»؟ وما معنى الإصرار على التمسك بسياسة مكافحة الإرهاب جوا؟ وهل يمكن توقع نجاح استراتجيية قتل «الإرهاب» من الفضاء؟
كل المؤشرات الميدانية (الأرضية) تدل على أن هذه السياسة لا قيمة لها سوى القتل والمزيد من القتل باعتبار أن الغارات (العمياء) لا تستطيع عمليا تحديد الموقع جوا من دون مساعدة على الأرض. أما الغارات التي تعتمد على معلومات الأقمار الاصطناعية أو ترسل إشارات ترمز إلى تحركات بشرية أو نقل معدات فإنها فاشلة في معظمها.
الأخطاء التي ترتكبها قوات الفضاء والصواريخ الذكية والطائرات من دون طيار فاقت المعدل الطبيعي وأصبحت مدعاة للسخرية والشماتة من التكنولوجيا الأميركية «المتطورة» في تقنياتها و«المتفوقة» في دقة تحديد الأهداف. فالتصويب الجوي الذي تعتمده قوات «التحالف الدولي» ضد المدنيين والقرى والأحياء والأسواق بذريعة مكافحة «الإرهاب» فقد وظيفته ولم يعد يمتلك تلك المبررات الكافية للتغطية على الأخطاء المتكررة والشبه الدائمة. كل أسبوع تعتذر قوات التحالف عن خطأ غير مقصود. وكل شهر ترسل بعثة تقصي للتأكد من صحة المعلومات التي تشير إلى مقتل الأبرياء وتدمير المساكن والمدارس والأحياء والقرى النائية المنتشرة في مناطق ريفية وعرة لا تصلها المياه ولا الكهرباء.
حرب الطائرة من دون طيار تحتاج فعلا إلى قراءة نقدية وإعادة نظر. فهذه الحرب وهمية ولا قيمة لها في عالم السياسة. فما معنى أن تخوض دولة عظمى معركة ضد قبيلة لاتزال تعيش في طور بدائي ولا تمتلك معدات حديثة لتطوير الزراعة؟ وما هي الرسالة الإنسانية والحضارية والحداثية التي تريد واشنطن توجيهها إلى قبيلة تبحث عن مصادر الرزق في مناطق جبلية (صخرية) وعرة تحيط بها المرتفعات والكهوف؟ وكيف يمكن أن تنتصر دولة عظمى على قبيلة كبيرة منتشرة جغرافيا ومتجذرة تاريخيا من الجو وعبر الفضاء؟ وهل من المعقول أن تقوم استراتيجية عسكرية على مبدأ القصف الصاروخي من طائرات من دون طيار؟ وهل بالإمكان أن نتصور نجاح سياسة القتال عبر الفضاء على قبيلة (قوم) يبلغ تعدادها السكاني الملايين من البشر؟
المسألة فعلا تحتاج إلى دراسة للإحاطة بتلك الاستراتيجية التي لا يمكن أن تقتنع بها أبسط المدارس والمعاهد الموصوفة بالغباء. كيف يمكن توقع أن تنجح سياسة فضائية في خوض الحرب على الإرهاب جوا؟ كل العلوم العسكرية المعاصرة تتوافق على مبدأ أن الحرب لا يمكن كسبها بالقصف المدفعي وراجمات الصواريخ والقنابل الذكية أو عبر الفضاء. الحرب الفضائية يمكن أن تدمر وتقوّض وتقتل وتشرد وتعصف بالمؤسسات والمنازل والجسور ولكنها ميدانيا لا تقرر النتيجة باعتبار أن معيار الربح والخسارة يرتبط بمعادلة الأرض أو التوازن البشري الذي يمتلك مفاتيح السياسة وإدارة العلاقات بين الناس.
حروب الفضاء (طائرة من دون طيار) لا معنى لها على الأرض ولا جدوى سياسية منها سوى القتل المجاني وإعطاء ذريعة لشبكات «الإرهاب» أن تواصل عملها التطوعي بدعم من سكان الأرض والقرى التي تتعرض للدمار. صواريخ الجو لا وظيفة لها سوى التباهي التقني بين شركات التصنيع الحربي لترويج منتوجاتها في أسواق التنافس وتصريف الأسلحة. أما على الأرض فإن من يمسك بالقرار الميداني يستطيع التحكم باختيارات الناس وتحديد توجهاتهم وأهدافهم. هذا ما حصل في العراق بعد تدميره واحتلاله وتقويض دولته. وهذا ما سيحصل في أفغانستان بعد انجراف إدارة باراك أوباما وتورطها في سياسة اعتمدتها إدارة جورج بوش في السنوات الثمان الماضية.
دروس العراق
المشكلة في إدارة أوباما في أفغانستان أنها لم تتعلم من دروس فشل تجربة بوش في العراق. وعدم الاستفادة من الأخطاء يؤدي دائما إلى الانزلاق في سياسة الإفراط في استخدام العنف انطلاقا من قناعات تتوهم أن مقاومة الإرهاب تبدأ من قاعدة الفضاء والملاحقات الجوية وتصويبات الأقمار الاصطناعية للصواريخ التي يتبين يوميا أنها غير ذكية ومكثرة في الأخطاء.
إعادة قراءة ملف العراق يمكن أن تسعف إدارة أوباما في استدراك الأخطاء في أفغانستان أكثر من لجان تقصي الحقائق وخبراء الفضاء. فالملف العراقي قدم محصلة غنية من الحقائق الميدانية. وإخفاق قوات الاحتلال في بلاد الرافدين لا تعود أسبابه لعوامل فنية ومهنية وحرفية وتقنية وإنما لعناصر بشرية. القوى البشرية على الأرض هي التي تقرر في النهاية محصلة الربح والخسارة. والناس في الميدان يحسمون التوجهات والأهواء والولاءات والانتماءات حتى لو بلغت قوات الفضاء عشرات الآلاف. الجو يتحكم بالمشاعر الإنسانية لفترة من الدقائق واللحظات وحين تنتهي الغارة الفضائية تتحرك ميدانيا انفعالات الناس على الأرض.
تجربة العراق كافية لاستخلاص الدروس والعبر. وإدارة أوباما لابد أن تقرأ وتتعلم حتى تتجنب تكرار الخطأ في أفغانستان. فما حصل في بلاد الرافدين يؤشر إلى مخالفات سلبية بين لغة الفضاء وكلام الناس. فالفضاء يساعد القوات البرية على التقدم والتوسع والاحتلال ولكن الجو لا يستطيع تغيير معادلة الأرض وإعادة تكييف الناس وتطويع عقولها في معلبات جاهزة ونماذج منجزة في المعاهد الأكاديمية والمختبرات الكيماوية. خيارات القوى البشرية تتحصل بالجغرافيا والتاريخ والمعتقدات والأديان والمذاهب والقبائل والمنافع الصغيرة والمصالح الضيقة والعلاقات التقليدية الموروثة أو المحكومة بمنظومات فقهية أو أنماط ثقافية ومعاشية واجتماعية.
لابد أن تقرأ إدارة أوباما تجربة العراق لاستنتاج الخلاصات النظرية والتعرف على الوقائع والمتغيرات والتحولات حتى تدرك معنى الاختلاف بين الفوز العسكري والانتصار السياسي. فالفوز تقرره أرجحية الآلة التقنية المتطورة جويا بينما الانتصار يحققه البشر ميدانيا على الأرض. وما حصل في العراق يعكس معادلة الفوز العسكري والإخفاق السياسي. فأميركا في بلاد الرافدين نجحت عسكريا وأحبطت سياسيا. وهذا الأمر يرجح أن يحصل في أفغانستان في حال أصرت إدارة واشنطن على مواصلة استراتيجية مكافحة الإرهاب فضائيا وبصواريخ «ذكية» تطلقها طائرات من دون طيار.
قوانين الفضاء تختلف في شروطها عن قوانين القبيلة. وسياسة الجو لا تفلح في تعديل مناخات البشر على الأرض مهما بلغت قوات الدولة الكبرى من عظمة عسكرية تعتمد على آليات متفوقة تقنيا. وفي أفغانستان (الوعرة جغرافيا) تبدو المسألة أصعب لأن المعادلة تقوم على حرب دولة عظمى ضد قبيلة كبرى. وحرب الدولة على القبيلة لا تنجح عادة نظرا لاختلاف قواعد الاشتباك، ولأن الآلات المستخدمة غير قادرة على فهم لغة البشر والتضاريس السكانية للناس. السياسة الذكية هي تلك التي تعتمد الحراك البشري على الأرض وهي لا تتطلب القوة العسكرية لنجاحها بل تحتاج إلى رؤية تتعلم من التجارب لإعادة تصحيح الثغرات وتصويب الأخطاء.
قبائل أفغانستان لا تحتاج إلى «صواريخ ذكية» لتعديل قناعاتها ولا إلى «طائرات من دون طيار» ولا قوات فضائية تأخذ تعليماتها من الأقمار الاصطناعية. قبائل أفغانستان تحتاج إلى مدارس ومستشفيات وطرقات وشبكات لجرّ المياه ومدّ الكهرباء ومؤسسات ترعى متطلبات الناس وحاجات البشر وشركات تساعد على تطوير المهن والحرف وتعزيز أنماط التعامل مع الحجر لإعادة تأسيس العمران وفق كيفيات متقدمة على الحاضر.
حرب دولة على قبيلة لا فائدة منها ولا معنى لها على الأرض وخصوصا إذا كانت على النمط الفضائي والقصف الجوي كما هو حاصل في أفغانستان الآن. فالتجربة العراقية أعطت الكثير من الدروس. وأهم تلك العناوين في نهاية الكتاب وفي الفصل الأخير من فصوله يمكن اختصاره بكلمات: قبيلة البشتون ستحبط ميدانيا استراتيجية الولايات المتحدة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2557 - السبت 05 سبتمبر 2009م الموافق 15 رمضان 1430هـ