تتصاعد هذه الأيام حرارة النقاشات الدائرة في صفوف الحركة الوطنية البحرينية حول المشاركة في انتخابات دورة 2010 البرلمانية أو مقاطعتها.
تتجاذب القوى السياسية البحرينية، ذات الثقل الجماهيري أو السياسي على حد سواء، اتجاهان رئيسيان: الأول الداعي للمشاركة، منوها بإيجابياتها، ومحذرا من سلبياتها، والثاني، على العكس من ذلك تماما، إذ نجده يروج لسلبياتها، ويشكك في إيجابياتها.
هذا الخلاف، نلمسه بين تنطيم وآخر. لكن بالقدر ذاته يتمظهر أيضا في صفوف التنظيم الواحد.
وقبل تناول تأثير هذا الجدل الدائر اليوم على واقع وتطور الحركة الوطنية الديمقراطية البحرينية، ومدى سلبيتها أو إيجابيتها على أي من الاتجاهين، لابد لنا من عودة سريعة إلى تاريخ البحرين المعاصر، وتحديدا فترة السبعينيات عندما شهدت البحرين، لفترة قصيرة لم تتجاوز السنوات الخمس، انفتاحا سياسيا تجلى في الدعوة لانتخابات المجلس الوطني، قبل أن يئده «قانون أمن الدولة». حينها، عندما كانت النسبة العالية من الحضور السياسي الجماهيري من نصيب الخط الوطني الديمقراطي، اندلع خلاف حاد بين تلك القوى السياسية، وعلى وجه التحديد بين جبهة التحرير الوطني، وكانت على الرصيف المؤيد للمشاركة، والجبهة الشعبية في البحرين، التي كانت حينها، تقف على الرصيف الآخر الداعي للمقاطعة.
بعيدا عن الدخول في سرادق مظلمة لها بداية وليس لها أية نهاية، للحكم على صحة أي من الرؤيتين، لابد لكليهما من أن يمتلك الشجاعة التي تعترف بأن النموذج الخاطئ الذي اختاره الطرفان، وسير الحوارات التي كانت بينهما، من أجل إدارة ذلك الخلاف الناشب بينهما أدى، بغض النظر عن نواياهما الطيبة، إلى السلبيات التالية:
1. انقسام حاد في الشارع السياسي البحريني، سواء بين المواطنين العاديين، أو في صفوف منظمات المجتمع المدني، من كان منها يعمل في هامش الحرية الضيق المتاح، أو تلك التي اضطرت إلى اللجوء إلى العمل شبه العلني، تحاشيا لذيول «قانون أمن الدولة».
غلب الطرفان: «التحرير» و»الشعبية»، خلافاتهما الثانوية فيما بينهما، وجرّا معهما جماهيرهما ومنظماتهما المساندة من اتحاد مرأة وشباب وطلاب، على تناقضاتهما الرئيسية المشتركة، أو تلك التي لكل منهما على حدة مع السلطة القائمة، والقوانين الجائرة التي كانت تطبقها بحقهما دون أية محاباة لأي منهما.
أدى ذلك إلى حرف المعارضة البحرينية عن مسارها الصحيح، وقاد إلى تمزيق سياسي عانى منه الشارع البحرين خلال العشرين سنة التي تلت حل المجلس الوطني.
2. خسارة الحركة الوطنية الديمقراطية البحرينية لنسبة لا يستهان بها من كوادرها المناضلة النشطة، ذات الخبرة الغنية في العمل السياسي، والتي آثرت الابتعاد عن ساحة العمل الوطني الديمقراطي، خشية وضعها في خانة الموافقة على المشاركة أو في جبهة المعارض لها.
الأسوأ من ذلك، أن نسبة من هذه الكوادر، فقدت الثقة في مصداقية التيار الوطني الديقراطي، فلم تكتف بالابتعاد عن ساحة النضال في صفوف تلك القوى، بل بحثت عن تنظيمات أخرى، بما فيها تلك الموالية للسلطة التنفيذية.
3. استفادة السلطة من حالة الانقسام التي تفشت في صفوف المعارضة، التي لم تدخر جهدا في تجيير ذلك الانقسام لصالحها، فدشنت هجماتها المتلاحقة بحل المجلس الوطني، ثم أتبعت ذلك بسن «قانون أمن الدولة»، والعمل به لفترة طويلة امتدت إلى ما يربو على ربع قرن من الحياة السياسية البحرينية.
أبعد من ذلك شنت السلطة موجات متكررة من حملات الاعتقالات التي ذهب ضحيتها شهداء من أمثال الشهيدين محمد غلوم وسعيد العويناتي، اللذين لم تفرق السلطة فيما بينهما، حيث كان الأول ينتمي إلى «الشعبية»، والثاني إلى «التحرير»، هذا إذا تجاوزنا أولئك، وهم كثر، الذين خرجوا من السجون يحملون معهم أمراضهم المزمنة، وعاهاتهم الجسدية غير القابلة للعلاج.
لم تتوقف هذه السياسات، حتى من الله على شعب البحرين، واستجابت السلطة للتضحيات التي قدمتها الحركة الوطنية، من مؤيدة لدخول البرلمان ومعارضة للمشاركة فيه، فجاء المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك، كي يخرج البحرين من نفق تلك الحالة المظلمة، إلى ساحة ميثاق العمل الوطني الرحبة.
هذا يقتضي من الأطراف السياسية المتحاورة اليوم، سواء في صفوف التنظيم الواحد، أو بين التنظيمات المختلفة، أن تقرأ بتمعن ما تمخضت عنه خلافات مرحلة المجلس الوطني، كي تستفيد منها، فتتحاشى سلبياتها، وتنطلق من ذلك من أجل انتزاع المزيد من المكاسب، بغض النظر عن المشاركة أو الامتناع. ليس المقصود هنا إيقاف تلك الحوارات، فهي ظاهرة صحية في بدن العمل السياسي، لكن المطلوب الإلتزام بالمفاهيم الصحيحة والصحية التي تنظم الحوارات وتضعها في إطارها الصحيح كي نتحاشى تكرار ما عانت منه الحركة السياسية في مرحلة السبعينيات، وكي يصبح الحوار سلوكا حضاريا بناء، بدلا من أن يتحول إلى صراع حاد يقوم على التراشق بالتهم، ومحاولة نفي هذا الطرف للطرف الآخر.
ربما آن الأوان كي نعي جميعا، وفي المقدمة منا الحركة السياسية المنظمة، أن أشكال النضال، شأنها شأن الأنشطة الإنسانية الأخرى، من الطبيعي أن تكون متنوعة، ولكل منها إطاره الخاص به، ونكهته المختلفة التي تميزه عن الآخرين، طالما أن هذا النضال، يصب في مصلحة الجماهير، ويمارس دوره المؤثر الخلاق في توسيع هامش الحريات الإنسانية التي وحدها القادرة على انتشال أي مجتمع من حالته اللا إنسانية التي تصادر فيها حرياته، إلى مجتمع آخر مختلف نوعيا يتمتع فيه الجميع بحقوقهم التي توفرها لهم القوانين والأنظمة المتحضرة المصاغة من دستور وطني معاصر.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2555 - الخميس 03 سبتمبر 2009م الموافق 13 رمضان 1430هـ