العدد 2551 - الأحد 30 أغسطس 2009م الموافق 09 رمضان 1430هـ

السّيّد عبدالعَزِيز الحَكِيم... تماثلٌ في خَطِّ العَوْدَتَيْن

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في أمر ارتحال السيد عبدالعزيز الحكيم لا مجال سوى للرحمة والترحّم على روحه. هذه أبسط أنواع الخلاف المتخلّق إن كان للخلاف خُلُق. وإن لم يكن له ذلك فهي أبسط أنواع المواساة التي يُظهِرها بنو البشر تجاه بعضهم البعض أثناء المحن.

داخل الملف العراقي لا تستطيع إلاّ أن تختلف فيه وحوله وبشأنه، لكنك أيضا لا تستطيع إلاّ أن تُناقش أمرا واقعا اليوم فرضه الاحتلال. قد تلوم من شاركوا في البناء المعوج الذي أقامه الأميركيون، لكنك مُضطرّ لأن تدفع بما يُقوّم ذلك البناء.

قبل تسعة وخمسين عاما وُلِدَ السيد عبدالعزيز الحكيم وكان العراق حينها يسبح في أزمة ترهّل الملكيّة وتفجير المعابد اليهودية في شارع السعدون والبتاويين. وبين طفولته وصِباه كان العراق قد شَهِدَ مقتل الملك فيصل الثاني ونوري السعيد وعبدالكريم قاسم في بحر خمسة أعوام.

وعندما صار الحكيم يافعا كان العراق قد بدأ يداوي سياساته وأزماته بالانقلابات العسكرية الدّامية في العامين 1963 و1968. وعندما دخل معترك السياسة والدعوة كان البعث قد اصطكّت أسنته مع الحركة الإسلامية (السُّنيّة والشيعية) ومرجعيتها الدينية (البَدْرِي/ الصّدر).

وحين قرّر الحكيم الرحيل باتجاه إيران الثورة كان الجميع في العراق يُكابد للخروج من وحل الدم المُسال بفعل الضربة الأمنية البعثيّة الوحشية. فشَهِد الحكيم مقتل ثمانية من أخوته لأبيه، وثلاثة وستين آخرين من عائلته على يد البعث.

وعندما كان في المنفى القسري كانت بلاده تنزف في حرب خاسرة مع إيران، ثم في حرب مُدمّرة ثانية مع الولايات المتحدة بعد تحرير الكويت، ثم في حصار ظالم قضى على مليون ونصف المليون عراقي، ثم في حرب ثالثة مع الولايات المتحدة أجهزت على حكم صدام حسين لكنها أيضا قَتَلَت مليون عراقي!

عندما عاد الحكيم إلى العراق كانت البلاد مُدمّرة، ورمادها مُتَيَبِّسٌ على أسمالها. فرأى أخاه ورفيق دربه السيد محمد باقر الحكيم يُفَتَّتُ جسده في تفجير إرهابي أرعن. ثم رأى العراق تتهشّم دروعه السياسية والأمنية والاجتماعية كأنها مُفرقعات بسبب الاحتلال والإرهاب.

وحين توفي قبل أيام كان العراق على حاله. فالبلاد مازالت تحت البند السابع. والجيش الأميركي لا يزال على الأرض. وزعماء الطوائف مُستعدون للنزال متى ما استُثيرت أنويتهم المذهبية. وأقصى ما يطمح إليه العراقي هو توفّر الكهرباء، وأن لا يقضي نحبه في تفجير هنا أو هناك.

في مسيرة الرجل وقعت مفارقات لم يكن لها حظّ في أن تحصل لولا القدر والمشيئة. فالمعارضة العراقية التي دخلها الحكيم كانت مُتأثّرة إلى حدّ بعيد بظروف العراق الداخلية والخارجية، وبأحداث المنطقة بشكل عام.

فعقد الثمانينيات كانت سنواته عِجاف بالنسبة لعراقيي المهجر، حين كان صدام حسين نجما عربيا ودوليا. كانت المعارضة مُحاصرة إلاّ من عاصمتين في المنطقة: دمشق وطهران. فالأولى كانت على خصام أيديولوجي مع بعث العراق، والثانية كانت في حرب مفتوحة معه.

وحين جاء الغزو العراقي لدولة الكويت في العام 1990 تغيّر كلّ شيء. وباتت التحالفات التي حَكَمَت المنطقة لأكثر من أحد عشر عاما تتهاوى وكأنها دعائم كارتونية. وبات الفرز الجديد فرصة لا تُعوّض للكثيرين بينهم المعارضة العراقية.

هذا التحوّل تلقّفه المجلس الأعلى بزعامة السيد محمد باقر الحكيم وكأنّه هِبة من السماء. فَنَسَجَ علاقات جيدة مع بعض دول الخليج وبالتحديد الكويت. ثم تطوّرت العلاقة بأن بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا تلتفت إلى المعارضة العراقية وبالتحديد المجلس الأعلى، فتوطّدت العلاقات بين الجانبين أيضا.

كانت واشنطن قد بدأت في ممارسة حرب متعددة المسارات ضد نظام صدام حسين. فبالإضافة إلى الحصار الخانق كانت قد رتّبت عدّة محاولات للانقلاب على النظام، أبرزها محاولة يونيو/ حزيران 1996 والتي قادها علاوي والشهواني، لكنها لم تنجح وأعدِم تسعة وثلاثون ضابطا عراقيا، ثم محاولة الهجوم على الفرقة 38 بين الموصل وأربيل.

هذه الأحداث قرّبت أعداء البعث بعضهم البعض. فالمعارضة العراقية كانت تريد إسقاطه لأنها لم تعد تمتلك معه مشتركات سياسية ولا وطنية. والأميركيون كانوا يرغبون في تغييره بغرض التواجد في ساحته السياسية والنفطية، ولتقليل أعداء الكيان الصهيوني في المنطقة والدفع بعملية السلام.

أما الإيرانيون فكانوا يعتبرونه خطرا استراتيجيا على أمنهم القومي. فهو يأوي منظمة مجاهدي خلق المعارضة، ويدعم المقاتلين الأكراد في جبال قنديل، فضلا عن دخوله معهم في حرب مُدمّرة، رغم أنهم كانوا غير راغبين في وجود الأميركي بجانبهم بعد سقوط النظام.

أما بعض الدول العربية فكانت تعتبر أن نظام صدام حسين بعد غزو الكويت قد صدأ عن الصّف العربي، ولم تعد العلاقة معه سوى مُقلقة. كانت تلك شبكة المصالح التي حيّدت خصومة الأعداء ولو لبرهة قصيرة.

في الجزئية التي تتعلّق بالمجلس الأعلى (الحكيم) فقد كان وجوده في المعارضة العراقية محوريا لسببين، الأول: أن المجلس كان يُشكّل أثقل الأحزاب العراقية المعارضة بسبب امتلاكه قوة عسكرية ناجزة، وإمكانات مادية ولوجستية ضخمة، والثاني: أن المجلس يُمارس أنشطته من دولة جارة للعراق وبينها وبين نظامه المستهدف خصومة دم وهي إيران.

كان السيد عبدالعزيز الحكيم مُفوّضا من قِبَل أخيه السيد محمد باقر لحضور اجتماعات المعارضة. في مؤتمرات لندن وعمّان وصلاح الدين كان المجلس يُشارك. ومن المفارقة أن جميع الأطراف المعنية بسقوط النظام كانوا موجودين في دوكان، ثم أصبح هذا التفويض مفتوحا بعد غزو العراق ومقتل السيد محمد باقر الحكيم.

كان السيد عبدالعزيز قد عاصر أخاه طيلة ثلاثين عاما في المنفى وبعد عودته إلى العراق الأمر الذي أتاح له أن يَرِث العلاقات الوثيقة التي كانت تربطه بأطراف متعددة، لذا فقد بقيت علاقات المجلس بذات الأطراف متينة حتى مع وصوله إلى السلطة.

لقد استغرق الحكيم (الوارث) في مشاكل العراق حتى شحمة الأذن. كان ذلك ضريبة تشكيل الائتلاف وحصوله على 128 معقدا، وبالتالي حُكم العراق. كان عليه أن يتعامل مع العراق بشكله الجديد. كان هذا الشكل قائم على قوّة الطوائف والإثنيات وليس الوطنية المفتوحة.

كان عليه أن يتعامل مع أغلبية شيعية (تحكم) بفعل الديمغرافيا الداخلية، وأغلبية سُنّيّة (سياسية) تُوفّرها الدول العربية كامتداد طبيعي لها. كان عليه أن يُوازن (أو يختار) بين صديقين له (الإيرانيون والأميركيون) لكنهما أعداء لبعضهما البعض، ولهما حضور حقيقي على أرض بلاده.

وكان عليه أن يتعامل مع احتلال يجب أن يرحل، ومع مقاومة، ومعارضين للعملية السياسية، ومع حرب للإرهاب الأسود، وحروب طائفية. كان عليه أن يتعامل مع الأمن المفقود، والخدمات المدنية المعدومة، والتعاطي مع أحزاب الداخل على أساس الشراكة.

كل تلك الأمور كانت ملفات صعبة جدا على أشخاص قضوا نصف عمرهم في المعارضة السياسية ولم تكن لهم تجربة حكم. كانت الأوضاع لا تسرّ أحدا، وهو ما دفع بالحكيم لأن يعيش أقسى أنواع الاختبارات السياسية العملية له على الأرض.

اليوم يرحل الحكيم في ذات البلد الذي عاش فيه منفيا. عودته من إيران بعد سقوط النظام وهو محاط بقوات بدر وسيارات الدفع الرباعي تتشابه مع عودته مُسجّى قبل أيام. خلال عودته الأولى كانت البصرة محطّته الأولى، ومنها إلى النجف الأشرف.

هذه المرّة تغيّر خط الرحلة قليلا. بدأ في طهران محمولا على الأكف، ومنها إلى قم المقدسة، ثم إلى البصرة مرورا بمدن الجنوب العراقي، وصولا لبغداد والكاظمية، ثم إلى كربلاء المقدسة وأخيرا النجف الأشرف. وما بين العودتين تماثل وحديث لا ينتهي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2551 - الأحد 30 أغسطس 2009م الموافق 09 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:26 م

      تفــاحة

      اشكرك على هذا المقال الرائع
      ذكرتني باوضاع العراق الجريح :(
      وبالسيد عبد العزيز الجكيم ومعاناته مع المرض ومع كل هذه الملفات السياسية المعقده ومع اعدائه الذين اذوه كثيرا

    • زائر 3 | 2:29 ص

      الي جنان الخلد

      الرحمة الواسعة للسيد الحكيم و الحقه الله سبحان وتعالي مع محمدو اله الطاهرين

      الفاتحة

    • زائر 2 | 1:03 ص

      رضوان الله عليكم يا ال حكيم

      الله يرحمك يا السيد و هنيئا لك جهادك في سبيل دينك و دولتك من تخلصها من الطاغية ... الى الجنة ان شا الله يا السيد.

    • زائر 1 | 12:07 ص

      إلى عفو الله ياحكيم

      اللهم ارحمه برحمتك واحشره مع آبائه الطاهرين .. وأقول كان رحمه الله كما كان أخوه شهيد المحراب رجل سياسة و سلام من الطراز الأول يمتلك من الحنكة السياسية ماجعله محط أنظار العدو قبل الصديق .. لم تزلزله أعاصير الفتنة في العراق وتجرع الغصص وخونوه وهو الأمين على دينه وبلده ولكن جاء اليوم وستأتي الأيام التي كشفت وستكشف طهارة معدنه فهو من سلالة آل الحكيم الذين ورثوا مقارعة الباطل أبا عن جد .. فنم قرير العين أبا عمار ومثواك الجنة إن شاء الله

اقرأ ايضاً