العدد 264 - الثلثاء 27 مايو 2003م الموافق 25 ربيع الاول 1424هـ

مفارقات الاحتلال

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تستعد المنطقة العربية لاستقبال الرئيس الاميركي جورج بوش. ويرجح أن يلتقي الرئيس بوش أكثر من زعيم عربي وان يزور أكثر من بلد عربي... باستثناء البلد الذي حققت فيه قواته فوزا عسكريا.

هذه ليست مفارقة. المفارقة هي ان إدارة البيت الابيض أخذت تتصرف - بعد تمرير القرار الدولي على مجلس الأمن الذي شرع الاحتلال من قريب وبعيد - وكأنها الممثل الشرعي الوحيد للعراق. فالقرار الدولي اتخذ اصلا بغياب مندوب عن العراق وصيغت فقراته من دون استشارة أصحاب البلاد وقبل ان تلتقي المعارضة أو أصحاب المصلحة في الاستقلال والسيادة على موقف موحد يحدد مطالب أهل الرافدين ونظرتهم إلى حاضرهم ومستقبلهم.

حتى المعارضة المشبوهة والمحسوبة تقليديا على أجهزة الإدارة الاميركية استبعدت من المناقشات ولم تحرص واشنطن، ولو شكليا، على اصطحابها معها إلى نيويورك للمشاركة في المفاوضات والمداولات التي يفترض انها تتم باسم الشعب العراقي ولمصلحته.

تصرفت الولايات المتحدة في الأمم المتحدة كاستعمار قديم لا يعطي اي اهتمام لرأي الناس أو يعيرهم الانتباه بغية التعاون معهم مستقبلا لتقرير مصير بلادهم. وحين صدر القرار الدولي بدأت قوات الاحتلال تتصرف فعلا كاحتلال حتى انها لم تعد تأبه لشعاراتها السابقة من نوع «عملية تحرير العراق» أو مساعدة الشعب العراقي على التخلص من نظام القهر والاستبداد. فتلك الشعارات التضليلية تخلت عنها واشنطن فور صدور القرار الدولي معتبرة ان المنظمة الدولية اعطتها اشارة خضراء للتصرف كما تريد شرط احترام المواثيق واتفاقات جنيف، والعودة دوريا وعند اللزوم إلى مجلس الأمن لبحث المستجدات، واتخاذ المطلوب بشأن التطورات التي يتوقع لها ان تظهر على سطح العلاقات بعد مرور فترة من الزمن.

استقوت واشنطن بالقرار الدولي. وفور صدوره لجأت إلى اتخاذ سلسلة اجراءات ادارية وتنظيمية تعكس الرغبة الحقيقية من وراء الحرب المفتعلة على العراق. بدأت أولا بحل التنظيمات المدنية التي انتخبها وعينها الناس لملء الفراغ الأمني والسياسي، ولجأت ثانيا إلى حل الجيش وصرفه من الخدمة من دون تعويض، واصدرت ثالثا اوامرها طالبة من المواطنين تسليم اسلحتهم في وقت لاتزال البلاد تعيش اجواء فوضى ويتعرض اهلها للاعتداءات والسرقات على مرأى القوات الغازية، واعتبرت رابعا أن القوات المحتلة هي جيش العراق وهي الادارة الامنية الوحيدة التي يمكن استخدامها أو اللجوء اليها عند الحاجة، وسحبت خامسا وعودها بالانسحاب خلال فترة محددة وربطت بقاء قواتها في العراق بجملة اعتراضية خلاصتها ان القوات ستبقى ما دامت هناك حاجة اليها... والحاجة قد تستمر وتستمر إلى مدة طويلة ربما تجاوزت الوقت الزمني المفترض وهو بين سنة أو سنتين، وأخيرا وليس آخرا أعلنت القيادة المركزية للقوات الغازية ان «البنتاغون» قررت زيادة عدد قواتها ورفعها من 163 إلى 183 الفا رابطة المسألة بوجود نقاومة مدنية ضدها.

باختصار تصرفت القوات الاميركية حتى الآن بصفتها قوات احتلال «لا تحرير»، وهي بدأت تستعد لنقل المواجهة من موقع الصدام مع فلول النظام السابق إلى موقع الاصطدام مع الأهل ومواجهة اعتراضات الناس بالقوة العسكرية والادوات الامنية.

والسؤال: لماذا كل هذه الحشود مادامت المهمة الرئيسية للقوات انتهت منذ قرابة الشهرين وأسقط النظام بسرعة بعد احتلال بغداد؟

حتى الآن لم تجب واشنطن عن السؤال، وتلجأ دائما إلى الخداع والتهرب من الموضوع الرئيسي. مرة تقول انها حققت مهمتها وتريد تخفيف قواتها خلال فترة محددة، ومرة تقول انها تريد تسليم شئون البلاد لاهلها من خلال عقد لقاءات لتنظيمات وهيئات محلية لها صفة تمثيلية تريد التعاون معها لضبط الأمن وإعادة الحياة الطبيعية للدولة، ومرة تشير إلى ان مهماتها لم تكتمل وتريد البقاء فترة اطول لملاحقة فلول النظام واتباعه حتى تضمن قوة سياسية للنظام البديل وقدرة على الاستمرار والتماسك لفترة اطول.

هذا الكلام المشوش يترافق دائما مع تصريحات مفارقة تشير إلى وجود خطة مضادة لا صلة لها بالافكار التي ترددها بعض الاوساط القريبة من مبنى «البنتاغون». الكلام الآخر يدل على وجود خطة تهدف إلى السيطرة الكلية والشمولية على العراق بذريعة ملاحقة «انصار الاسلام» تارة وانصار تنظيم «القاعدة» طورا الامر الذي يفتح باب بقاء قوات الاحتلال إلى فترة كافية لإلغاء ما تبقى من عناصر استقلال للناس والدولة. فالكلام عن القضاء على «شبكات الارهاب» يعطي المجال المفتوح لكل التصرفات الشـائنة التي يمكن ان تقوم بها قوات الاحتلال ضد المدن والقرى والاحياء والمناطق ويشرّع لواشنطن كل اساليب القتل والاعتقال والاغتيال لتأمين سلطة كافية قادرة على ضبط الوضع السياسي تحت مظلة أمنية لا تقل شراسة واستبدادية عن ذلك الوضع المدمر الذي كان يسود العراق في الفترة السابقة.

إنها مفارقات... ولكنها تؤكد القاعدة (الأصل) وهي ان الاحتلال مهما رفع من شعارات براقة يبقى في جوهره مجرد احتلال يريد كسب الموقع لسرقة ثروة الناس والتصرف بشئونهم كما كان الأمر في بدايات القرن التاسع عشر حين ذهبت الجيوش إلى آسيا وافريقيا بحثا عن الاسواق والخامات والمواد الأولية والثروات.

وأميركا في مطلع القرن الجاري ليست استثناء بل هي مجرد مفارقات تؤكد القاعدة (الأصل) وهي احتلال القوي ارض الضعيف. والقوي في البداية يستخدم بعض أهل البلاد لتغطية الاحتياح العسكري وحين يتمكن من السيطرة يبدأ في المرحلة التالية بالاستغناء عن الادوات (الوكلاء) ليباشر حكم البلد من دون وسيط محلي أو وسطاء في محيط الدولة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 264 - الثلثاء 27 مايو 2003م الموافق 25 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً