العدد 264 - الثلثاء 27 مايو 2003م الموافق 25 ربيع الاول 1424هـ

بإعطاء الصحافة مساحة أكبرمن الحريّـة يمكن معالجة الملفّات المهمّة

أصبح الفساد قنبلة موقوتة لا تهدد مكانا بعينه ولا دولة بعينها بل أصبح خطرا يهدد كل فترة بلدا بالاضطرابات والهزات الاجتماعية وتزداد خطورته في تلك الدول التي لا تسمح بهامش الحرية ولا تسمح بالحديث عنه وتعتبره بعض النظم جزءا من قيم المجتمع وثقافته فتتغاضى عنه، وتتجاهله ليتحول الى قوى إفساد منظّمة ترهب الدولة نفسها وتقضّ أمن المجتمع وتخلخله.

لماذا ينتشر الفساد، ولماذا لا يسمح بكشفه أمام المجتمع، ولماذا يلجأ البعض إلى الرشوة والمحسوبية والتفريط بالمصالح العامة للمجتمع، وإذا ما استشرى الفساد ترى هل يبقى شيء للأجيال القادمة وهل ينجو الجيل القادم من آفته... وما دور الصحافة في حماية المجتمع من الفساد والمفسدين؟ كل هذه الأسئلة حملها (الملف السياسي) إلى أساتذة جامعة الامارات للحديث عنها.

هل الفساد بدأ مع بدء الخليقة؟

إن الفساد بدأ مع الإنسان وان قصة قابيل وهابيل هي أول قصة فساد على الأرض، وبالتالي فهي ظاهرة انسانية منذ ولد الانسان وذلك في ظل وجود رغبات انسانية للاستيلاء على مال الآخر، وقد ساعدت الظروف في مرحلة الاستقرار البشري مع زيادة الموارد على وجود نزوع واضح لأن يحاول من لا يمتلك ان يمتلك واختلفت الوسائل أو الطرق سواء أكان بالقلم أم الرأي أم المال.

ثم إنه ليس هناك دولة ليس فيها فساد، إلا في بداية ظهور الدولة الاسلامية كان الضمير الاسلامي يقاوم فكرة الفساد ولكن بعد هدم معاوية للمسجد وظهور الخراج بدأ الحديث عن الفساد، وحتى في الجاهلية القديمة كان الشعراء يمتدحون الامراء طمعا في أموالهم وساهم ذلك كثيرا في ظهور الفساد في تلك الفترة، كفساد الوزراء وفساد الحجّاب.

من دون شك ساهمت القيم الاستهلاكية كثيرا ومعها الفكر الرأسمالي في زرع قضية النهم الاستهلاكي ومحاولة الحصول على كل شيء، فالبضائع كثيرة ومتنوعة وهذه الاشياء الوهمية لا يلبيها الا المال، وفي المذهب البراغماتي ان الغاية تبرر الوسيلة والمافيا التي نسمع عنها الآن في ايطاليا وروسيا وأميركا ما هي الا صور حديثة من صور الفساد المنظم، وعموما فإن الفكر الرأسمالي يدعو إلى خلخلة مجموعة القيم والأنساق القيمية عند الانسان تحت مظلة الغاية تبرر الوسيلة وان الضمائر تشترى بالمال، ووجود المال بكثرة، وبحسب المثل المصري العامي (فإن المال السايب يعلم السرقة) في ظل عدم وجود رقيب يتصور البعض أن السرقة اصبحت سهلة، كذلك عدم وجود قوانين رادعة وواضحة تجيب على كل سؤال من أين لك هذا؟ هناك اناس يظهر عليهم الثراء السريع من دون معرفة مصدر هذا الثراء. بينما نجد في اميركا عندما يصل انسان الى مرحلة ثراء معين يقف امامه القانون ويسأله من أين لك هذا؟

الفساد يجعل القيم تتغير ويصبح هنا كيف نواجه هذا الاشكال، لأنه عندما يصبح ظاهرة مجتمعية فسيؤدي الى هدم العلاقة المجتمعية ويحدث توقفا لعملية التنمية وزيادة البيروقراطية وصاحب الحق لا يستطيع ان يصل إلى حقه الا بطرق ملتوية.

في قضية الفساد لابد أن نفرق بين نمطين من الدول العربية. النمط الأول الدول الغنية والثاني الفقيرة. فالشعوب حينما تحس بالظلم والقهر يتحول هذا القهر إلى صراخ ثم مظاهرات، وأخيرا انقلابات وهذا يحدث في الدول الفقيرة جدا والفقيرة وفي الدول العربية الغنية لا يخرج عن كونه مقالا أو رأيا، إلا انه لا أحد فوق القانون وهذه مسألة مهمة جدا، لأنها ببساطة تضمن حق المواطن وتحميه من الاستغلال.

ضعف الوازع الديني

والقيم والانتماء إلى الوطن

في ظل الضعف الخاص بالوازع الديني والوازع القيمي والانتماء إلى الأرض والوطن وفي الوقت نفسه عندما يشعر انه مؤتمن على كل شيء يلعب الخواء الروحي دوره في ظهور الفساد، كذلك مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب والرجل المنتمي وغير المنتمي. كل هذه عوامل تحدد ماهية وحجم الفساد، فالانتماء إلى الأرض والاندماج الكامل معها ومع ترابها والاحساس بأهمية هذه الأرض وترابها واحتياط الأجيال القادمة يحدّ من الفساد، أما اذا سرق كل شخص وتم السكوت عليه فإنه لن يتبقى شيء للأجيال القادمة، والعقيدة تتمثل بشكل أساسي في زرع قيم الامانة والانتماء وإذاشعر الإنسان أن هناك رقيبا يراقبه سوف لن تقع سرقات، ولنفترض ان بعض الفاسدين لم يطلهم القانون...فكيف سيكون الوضع؟ انني أوجه دعوة خاصة إلى الجميع إلى ان نعود الى زراعة القيم الدينية الاساسية، واحترام المال العام لأننا لن نستطيع وضع شرطي داخل ضمير كل انسان، نريد ان نعود الى المجتمع الطاهر.

إن الفساد له أسباب كثيرة وجوانب متعددة منها جوانب نفسية واخرى اجتماعية وكذلك جوانب اقتصادية، وهو غالبا ما يتفشى في حال تدني مستوى المعيشة وبالتالي يلجأ المرتشي أو الموظف في موقع المسئولية الى الرشوة وغيرها من الأعمال غير القانونية، لذلك نجده بكثرة في الدول الفقيرة، بينما في الدول المتقدمة تلعب حرية الصحافة نوعا من الرقابة بل تكون الضابط الرئيسي للفساد وفي دول العالم المتقدم من يقبل دينارا كمن يقبل مليون دينار، فالمبدأ لا يتجزأ اذ ان الخدمة هنا مقابل المقابل المادي.

كما أن كثيرآ من الاحيان يخطىء الانسان ويقع في المحظور ولكن من يتخذ ذلك وسيلة للكسب والثراء لا يستطيع ان يتخلى عنه والمسألة هنا مسألة قيم وأخلاقيات، وفي كثير من الاحيان تساهم ثقافة المجتمع في ردع الفساد، وثقافة المجتمع ايضا تشجع على الفساد الاداري، فهناك بعض الممارسات المقبولة اجتماعيا ولكن لو نظرنا إليها في الاطار القيمي والاخلاقي نجدها نوعا من الرشوة والفساد الاداري كالواسطة مثلا لأنها في كثير من الاحيان تحدث تفرقة بين الاشخاص فمن لا يستحق يحصل على ما يستحقه غيره، والفساد ليس بالضرورة او بصفة عامة ان يكون ماديا.

المادة سبب للفساد

إن المادة لا تزال هي اهم شيء في حياة الانسان وقيام الثورات في العالم كله كانت وراءها دائما اسباب اقتصادية، والفساد الاداري ينشأ نتيجة لأسباب مادية وكثير من الدراسات تركز دائما على جانب العرض وليس الطلب والهجوم في اميركا الآن على جانب العرض لأنه اذا لم تعرض الرشوة لما طلبها احد.

كما أن الفساد له جوانب انسانية بالتأكيد وكذلك جوانب مادية واقتصادية ويحدد ذلك ميول البشر، فالفساد موجود منذ بدء الخليقة سواء اكان بشكل منظم أو غير منظم، والفاسد يبحث دائما عن المال باعتبار ان المادة اساسية في حياة الانسان، وبالتالي يفضل البعض ان يتكسب بسرعة ويجني ثروات عن طرق غير قانونية، كما ان الجانب الاقتصادي يعني ان الفاسد يبحث عن تعويض النقص المادي الذي يشعر به عن طرق غير شرعية فيكون هذا النقص هو الذي استطاع تحصيله نتيجة فساده.

كذلك الكلفة مهمة جدا، هذا يعني انه اذا اقدم شخص على فعل غير شرعي وكانت كلفة هذا الفعل غير قاسية أو غير عالية فإنه من الطبيعي ان ينتشر الفساد، أو بالتحديد إذا لم تكن هناك عقوبة عالية القيمة وباهظة الكلفة بالنسبة إلى المفسد فإنه يقدم على فساده وهو يعلم انه بعد فترة قصيرة من العقاب سيخرج ليستمتع بما حصل عليه، أما اذا وجد وزير نفسه وهو يخسر منصبه لمجرد تدخله في توظيف شخص فإن الكلفة هنا عالية جدا وبالتالي سيفكر مليون مرة قبل التدخل. وهنا نتساءل عن حجم المعاناة بعد فساد الموظف، هل كبيرة أم صغيرة؟ فإذا كانت الكلفة البديلة بالنسبة إلى المرتشي تعادل صفرا فإنه يُقدم على الارتشاء وعلى الفساد.

الديمقراطية والحرية

وربطهما بظهور الفساد أو اختفائه

إن غياب الديمقراطية يؤدي الى ظهور الفساد وانتشاره وإذا أتاحت الديمقراطية للمواطن ان يتحدث عما يراه فإن المفسدين سيفكرون ألف مرة قبل اقدامهم عليه، ففي الفلبين مثلا سيفكر الرئيس الذي جاء عقب الرئيس الذي ضُبط بالفساد ألف مرة قبل أن يقلده بعد عزله وفضحه على مستوى العالم.

كذلك فإن الصحافة تلعب دورا مهما باعتبارها سلطة رابعة لا بُدّ أن تقوم بمواجهة الفساد ويمثل الفساد بالنسبة إليها مادة دسمة في حال وجود حريات تسمح بنشر كل ما يتعلق بقضايا الفساد.

وإذا لم تكن هناك آلية لإبراز الفساد يمكن للمفسد ان يقدم على فساده ودائما الفساد الإداري ينتشر في الدول التي تبتعد عن الديمقراطية وتغيبها وكثير هم الذين أثبتوا أن هناك علاقة عكسية بين الفساد والديمقراطية، ونحن لدينا الكثير من اجهزة الرقابة لكن اعتقد ان وجود ديوان المحاسبة مهم جدا لضبط عمليات الفساد، وكثير من الدول تطبق ما يسمى بفكرة التدوير وهي تغيير أماكن الموظفين بشكل دوري حتى لا يتكسب الموظف بطول بقائه في موقعه مهارات الإفلات من ثغرات القانون.

كما أن الفساد يؤدي إلى بيئة غير متساوية في السوق، لأن مجموعة أفراد يستطيعون من خلاله القيام بما لا يستطيع الآخرون القيام به ما يؤدي الى تردي الأمر.

سنغافورة والفساد الإداري

تفتخر سنغافورة بأنها تتمتع بإدارة متميزة كونها أقل البيئات فسادا بعد نيوزيلندا والدنمارك إذ جاءت في المرتبة الثالثة بين الدول الخمس عشرة الأقل فسادا في العالم لتتفوق على الكثير من الدول الغربية كالولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والسويد. يأتي هذا الانجاز نظرا إلى السياسات الصارمة التي تتبعها الحكومة السنغافورية تجاه مظاهر الفساد، ومن أهمها تطبيق قواعد متشددة بشأن الفساد، إذ تشترط الحكومة على جميع الموظفين في القطاع العام أن يملأوا بصورة منتظمة استمارة خاصة بإثبات انهم لم يحصلوا على أية أرباح مجهولة المصدر خلال فترة عملهم في الحكومة. كما تتم متابعة الدخل السنوي للموظف للتأكد من عدم حدوث زيادة غير طبيعية في دخله تفوق مرتبه الرسمي. ويتعرض الموظفون الذين تثبت ادانتهم بالقيام بأية عملية تتعارض مع قوانين الوظيفة للمساءلة القانونية، والعقوبات مشددة قد تصل الى الفصل من الوظيفة أو انهاء التعاقد.

فقد قامت لجنة شئون الموظفين في سنغافورة في العام 1994 مثلا بمعالجة 163 حالة تأديبية ضد موظفين حكوميين اتهموا بالاختلاس أو سوء استخدام السلطة أو الاهمال نتج عنها 49 حالة فصل من الخدمة و17 حالة توقيع عقوبات ادارية و15 حالة توبيخ رسمي. لذلك فإن رئيس وزراء سنغافورة عندما سئل من قبل الصحافة عن السر في تفوق هذه الدولة على معظم دول العالم إداريا قال:

(We have clean Adminstration) أي (لدينا إدارة نظيفة خالية من الفساد).

أما في مملكتنا الحبيبة فإن مفهوم الفساد الإداري مازال قاصرا وله تعريف واحد تقريبا وهو نهب الأموال العامة، هذا الفهم السطحي لموضوع الفساد جعل كثيرا من الموظفين الحكوميين يقومون بممارسات، قانونيا وإداريا تصنف فسادا، لكنها مجتمعيا تصنف (شطارة) أو كما يقول اخواننا المصريون (فهلوة). ألا يعتبر هذا فسادا وعملا لا أخلاقيا. كما ان من مظاهرها ممارسة بعض القيادات الادارية عندنا الأعمال الخاصة ولو بصورة مستترة حين تكون هذه الأعمال محرمة عليهم نظاما وقانونا وقد تكون لبعض القيادات الادارية مصالح مباشرة مع بعض الشركات المتعامل معها.

أين الآليات ؟

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الآلية المتوافرة في الدولة للتبليغ عن التجاوزات أو الخروقات التي تحدث في الوظيفة العامة؟ بمعنى ماذا يفعل الموظف الشريف إذا وجد تجاوزا ما في مؤسسته؟ هل يذهب الى الصحافة، هل يتصل بالمسئولين في مؤسسته؟ الواقع ليس أمام هذا الموظف إلا ان يتبع سياسة لا أسمع لا أرى لا أتكلم!

1- الفساد ليس حالة فردية بل تمتد لكي تكون حالة عامة احيانا (كما ذكر القرآن الكريم عن قوم لوط والفساد الاجتماعي) ولكن أكثر حالات الفساد المعرضة للظهور للعيان هي حالات الفساد الفردية. وقد تكون اسباب الفساد نتيجة لطغيان المادة والنمط الاستهلاكي في المجتمعات وهي ظاهرة ليست قاصرة على المجتمعات الفقيرة أو تلك التي تعاني من ضائقة اقتصادية بل تمتد إلى كل المجتمعات النامية ودول العالم الثالث ولكن الفرق ان الدول المتقدمة وضعت آلية قوية لكشف أولئك الذين يستغلون مراكزهم العامة في الاثراء السريع. وتطلب الدول المتقدمة من كل موظف كبير أو مسئول ان يقدم قبل تسلمه الوظيفة كشفا بماله الخاص وذلك حتى لا يستغل هذا الموظف وظيفته لصالحه الخاص.

2- مكافحة الفساد باتت قضية تؤرق المجتمع والدولة معا فالحد منه والقضاء عليه انما هو قضاء على آفة اجتماعية خطيرة تهدد أمن وكيان المجتمع. وباتت قضية مكافحة الفساد وخلو المجتمعات منها انما هي ظاهرة حضارية تدل على مدى رقي المجتمع ومدى الوعي لدى أفراده في الحفاظ على المال العام. وقد سنّت معظم الدول القوانين والتشريعات للحفاظ على المال العام وكشف المتلاعبين في قضايا الفساد والرشوة.

3- الفساد هو ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهي دليل على انحدار مستوى الوعي لدى الأفراد وعدم قدرة النظام السياسي على الحفاظ على المال العام والمصلحة العامة.

4- الأزمات الاقتصادية ليست مسئولة عن حالات الفساد. فالفساد ليس مقصورا على الدول الفقيرة بل يشمل الدول الغنية ايضا. ولكن غياب الوازع الديني، وضعف الرقابة الحكومية هما وراء انتشار ظاهرة الفساد.

5- لعب الفساد والرشاوى دورا مهما في تدمير القيم والأخلاقيات في المجتمع وأديا إلى ظهور قيم غريبة. فالإسلام حثّ على التعامل مع المال العام بكل الحرص. والدليل على ذلك سيرة الخلفاء الراشدين وقيامهم بانشاء بيت مال المسلمين حرصا على التفريق بين المال العام والخاص. ولكن ضعف الوازع الديني واختفاء القيم الاجتماعية النبيلة وراء ظهور هذه الظاهرة. كما أدت الثقافة الاستهلاكية ببعض ضعاف النفوس الى استغلال بعض الثغرات للاستفادة غير المشروعة على حساب المصلحة العامة.

إن أي حملات جادة لمكافحة الفساد تُقابل بترحيب شعبي، ولكن يجب أن تكون جادة وتطبق على الجميع، وليس لتصفية الحسابات كما هو السائد في مملكتنا والكثير من البلدان العربية ولأغراض حزبية أو نتيجة لاختلاف في الرأي أو نتيجة تغيّر في النظام.

الفساد كأذرع الاخطبوط، كثيرة وطويلة وسامة، وكلما قطعت واحدة منها، نمت اخرى بديلة، وكذلك الفساد كلما تصدينا له وحاربناه في مكان، ظهر في مكان اخر، وعلى يد اشخاص اخرين، اكثر قوة واشد بأسا وشراسة، فللفساد جيوش ضخمة تحميه وتدافع عنه في كل لحظة

العدد 264 - الثلثاء 27 مايو 2003م الموافق 25 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً