المحامية المعروفة جليلة السيد لا أعتقد أنها بحاجة إلى مديح من أحد لكنني أعتقد بحاجتها إلى «النقد» خصوصا إنني كنت أتوقع منها طرحا جديدا«توافقيا» في قضية قانون الأحوال الشخصية يطرح حلولا بدلا من الاستغراق في «الردود المفحمة» والتي يملك الكثيرون قدرة الرد عليها والآخرون أيضا يمتلكون قدرة الرد على الرد وهكذا دواليك.
ففي الندوة الأخيرة عن الأحوال الشخصية تبدت ملامح متناقضة في خطاب جليلة السيد حين أصرت على أن تقنين الأحوال الشخصية لا بد له من العبور على صراط البرلمان وإلا فإن المعارض لهذا الرأي يهدر النظام الديمقراطي وتضحيات الشعب لأجله، أعتقد أن المقدمات التي طرحتها السيد لا تتفق مع هذه النتيجة خصوصا وهي تعيب على الطرف المعارض للتقنين عبر البرلمان قوله إن من لا يو قع على العريضة المعارضة للتقنين عبر البرلمان فهو خائن لدينه، إذن فالسيد تتحدث بنفس الخطاب الذي تستنكره هذا أولا، أما ثانيا فتساؤلاتها عن توقيت هذا الجدل والذي قلب الأولويات في وقت صارت فيه الساحة مهيأة للحديث مرة أخرى عن المسألة الدستورية فلا أدري لماذا لم تنتقد المحامية تلك الجمعية «المقاطعة» التي كانت تتحدث في ندوتها على تشكيلها حديثا لجنة خاصة لمتابعة البرلمان وأعماله مما اعتبره بعض المراقبين صيغة جديدة للتعاطي بواقعية مع المجلس في حين لم تشكل هذه الجمعية لجنة لتحريك المسألة الدستورية والتي صار الوقت ملائما لتحريكها - بحسب رأي الأخت جليلة - إضافة إلى أن تشخيص مسألة الأولويات فهي تختلف من شخص لآخر ومن مجموعة لأخرى فرجال الدين المعارضين للتقنين عبر البرلمان يقولون إن أولوياتهم هي الحفاظ على آخر مساحة يتم الاحتكام فيها إلى الأحكام الشرعية وهي مقدمة على غيرها من الأولويات فهل لنا أن نجبرهم على غير هذا الاعتقاد وإلا فإنهم (...). ثالثا قول المحامية الكريمة إنه تم تصوير تقنين أحكام الأسرة كسلاح بيد طائفة تستضعف به الأخرى وأن هذه الخطوة سيستتبعها إضعاف استقلالية المحاكم الشرعية الجعفرية، وقول السيد إن المسألتين منفصلتان لأن قانون تنظيم القضاء هو الذي يؤكد على وجود دائرتين أقول هذا صحيح أنهما مسألتين منفصلتين ولكن هذا الآن فقط فالتخوف الذي له مبرراته هو أن يصرح أحد المسئولين فيما بعد بأن القانون الموحد يستلزم دمج الدائرتين فالقانون واحد، إذن فلندمج الدائرتين «تحقيقا للوحدة الوطنية»، أما قانون تنظيم القضاء فهو ليس وحيا منزلا ويمكن تغييره بمرسوم أو بجرة قلم، وهناك سوابق مخيفة كما ذكرتِ بنفسك، إذن فالخلط ربما ليس موجودا في اذهان المعارضين، أما الحديث عن مبدأ التقنين فلم يعترض عليه أحد بشكل ابتدائي وإنما المسألة بالتحديد هي معارضة تقنينه عبر البرلمان وسواء أقررنا أم لم نقر بصيغة الديمقراطية الحالية، فإن المجلس الوطني بشكله الحالي حصل على دعم هائل من الراغبين بتقنين الأحوال الشخصية من خلاله سواء كانوا من مؤيديه أم من معارضيه فالعبرة بالنتائج والواقع العملي، وصحيح أن تقنين مسائل الأسرة ليست بدعة مستحدثة ولكن ياترى هل التقنين عبر البرلمان هو ثابت من الثوابت الذي لا اختلاف عليه ومن يخالف هذا الثابت فهو كافر بالديمقراطية والحرية خائن لها ولتضحيات الشعب من أجلها؟! وهل القانون الموحد هوالذي سينهي الطائفية والتمييز الفاضح في بلادنا وهل قضية القانون الموحد هي الأولوية أم مسألة التقنين ؟ أو ليس الإصرار على توحيد القانون بدلا من الإصرار على التقنين هو قلب للأولويات؟ والملاحظة الأخرى هي أن أكثر التخوف ليس من فرض أحكام مذهب على اتباع مذهب آخر ولو مستقبلا. لا، بل التخوف أكثر هو من التيار الذي لا يرى بأسا من تبديل الأحكام الشرعية بالأحكام الوضعية مسايرة لدخولنا عصر العولمة! والشواهد في البلاد العربية كثيرة خصوصا في قانون الأحوال الشخصية في تونس والذي حاول أحد المتكلمين في الندوة أن يبين أن ذلك القانون لم يلغ أحكاما شرعية فالمسألة فيها اختلاف - بحسب رأيه - أوليس هذا أكثر ما يتخوّف منه خطاب المعارضين، أما عدم استنكار المعارضين لتقنين مسائل شرعية سابقا مثل الجرائم التي تمس الدين والأسرة أو التحريف لنص مقدس فأعتقد أن الإجابة بسيطة، فتقنين بعض المسائل المذكورة كان منذ اختفى نمط الحكم الإسلامي من البلاد العربية والإسلامية ومجيء الاستعمار مبعدا الكثير من الأحكام الشرعية عن حيز التطبيق وصار الأمر بعد ذلك متعلقا بطبيعة الأنظمة السياسية التي جاءت بعد حقبة الاستعمار والتي يعتنق مسيّروها الإسلام دينا لكنهم مضوا على ما مضى عليه المستعمرون خصوصا بعد سيطرة الأنظمة القومية أو البعثية أو القبلية الشمولية على معظم البلاد فهي لم تعمل على إرجاع تطبيق الأحكام الشرعية بل أخذت تقلل مساحة تطبيقها ما أمكن ذلك، أضيفي إلى ذلك حالة العجز والقمع التي مرت بها التيارات الإسلامية في المنطقة مما جعل المطالبات بتطبيق الأحكام الإسلامية يعني المطالبة بالحكم والرغبة في قلب النظام واستبداله، أليس ذلك ما كان يحدث؟ هذا والعهد قريب من تلك الأيام، أعتقد أن المعارضين مقتنعون بأنه لو تمت الموافقة الآن على إصدار قانون للأحوال الشخصية من قناة البرلمان فلن يكون هذا القانون مخالفا للشريعة الإسلامية، لكن تخوفهم ممن قد يأتي إلى البرلمان ولا يرى في القانون التونسي مخالفة للشريعة الإسلامية أو ممن لا تعجبه الشريعة بتاتا وذلك يتبدى بين الفينة والاخرى من خلال الهمس الذي نسمعه نحن الصحافيين من خلال بعض التنظيرات أو حين يصف البعض البرامج الدينية لعلماء الدين في البحرين بالمتخلّفة وهذا قول أعتقد أن «الأدب» يجافيه. عموما محاميتنا الكريمة أعتقد أن دعوتك للحوار كانت مخلصة وأتمنى أن يحدث الحوار فعلا وما هذا المقال إلا إسهام في عرض مختلف الآراء التي نتمنى أن تبحث عن الحوار بدلا من استخدام البعض - وليس أنت - لغة الستينات «الخشبية» بأن الآخرين متخلفون مؤمنون بفكر التلقين، وهذا ما سمعناه من بعض المداخلات والكتابات وهذا بالطبع لم ولن يصب في الإتجاه الصحيح ولا يسهم في أي حوار إيجابي يطمح إليه المخلصون من أمثالك
العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ