في الستينات ومطلع السبعينات كانت اليابان مضرب المثل لكل من أراد ان يصف رداءة انتاج معين. فعندما يقول احدهم ان هذا الصنع ياباني كان يشير إلى رداءة المنتج وانخفاض ذوق المشتري والمستخدم للانتاج، كان حينها الانتاج البريطاني هو رمز الجودة، ولذلك فاذا قال احد الخليجيين في مطلع السبعينات إن هذا انتاج انجليزي أو أميركي كان يقصد الجودة وارتفاع الذوق، لم تمض سوى عشر سنوات لكي ينقلب الوضع. فجأة وفي مطلع الثمانينات انتبه العالم الى عملاق اقتصادي عظيم، وفجأة أصبح الحديث عن الانتاج الياباني رمزا للذوق والجودة والرفعة والذكاء والابداع.
ولم تستطع الدول الاقتصادية الاخرى من الخروج من تأخر منتجاتها الا بعد ان آمنت ان عليها ان تتعلم من التجربة اليابانية، وكانت هناك مدرسة تحاول تأكيد ان كل ما لدى اليابانيين كان قد استوردت افكاره من الاميركيين والأوروبيين، ولكن المدرسة الاخرى التي انقذت سمعة المنتجات الاميركية والاوروبية في التسعينات هي تلك المدرسة التي قالت انه مهما كانت جذور التطور الياباني فان على الاميركيين والأوروبيين ان يتخلوا عن فكرة الاستاذية وان يتنازلوا عن افكار الماضي والبدء بالتتلمذ والتعلم من اليابانيين، وفعلا فان البريطانيين استطاعوا انقاذ التدهور الاقتصادي من خلال الشروع باستيعاب الدروس وتطويرها (هذا بعد ان كانوا هم الذين يعلمون الآخرين)، وانطلاقا من هذا الفهم، فان علينا نحن ان نتخلى عن الافكار التي تحاول الايحاء باننا اساتذة للآخرين. نعم كنا في القيادة والريادة الحضارية والمدنية.
ولكن هذا كان حتى أخذت منا الاندلس، ولا داعي للحسرة والندامة، ولا داعي لاستحضار الماضي من أجل استرضاء النفس، نعم نفتخر بكل عصور النور التي ذهبت منا. نعم نفتخر باسلافنا عندما كانوا في الصدارة، نعم نفتخر بان الحضارة المدنية قامت على علوم اسسها علماء المدنية الاسلامية قبل النهضة الاوروبية الحديثة، ولكن كل ذلك لن ينفعنا الا اذا بدأنا بدراسة أسباب القوة ومعطيات النجاح لدى الآخرين.
ولعل من تلك الدروس التي نستطيع تعلمها من اليابانيين هي مدرسة الجودة في الاداء. لقد حوّل اليابانيون مبادىء الجودة في العمل والاداء الوظيفي لثقافة طليعية وجماهيرية وحكومية، وأصبح الياباني المتفوق يتمنى الحصول على جائزة «ديمنغ». وديمنغ هذا كان احد علماء الجودة الاميركيين الذين اسسوا علم الجودة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وديمنغ لم يكن له اثر في بلده الاصلي، ولكنه أصبح رمزا للمتفوقين اليابانيين.
الجودة كما درسها ويدرّسها اليابانيون لا تعني سوى ضمان ارتياح المستخدم والزبون بصورة ما يحصله ذلك الزبون من اي مصدر آخر، واليابانيون على هذا الاساس يحافظون على مفهوم «التطوير التدريجي المستمر». وهذا المفهوم يؤمن بأن السيارة، مثلا يتم تطوير اجزائها بصورة تدريجية ولكن مستمرة ومن دون انقطاع. ومن أجل ضمان استمرارية التطوير، فان الشركات والمؤسسات تبدأ انشطتها اليومية باجتماع للموظفين والعاملين الذين يتشكلون في فرق عمل صغيرة، وهذا الاجتماع المستمر يدرس جميع الاقتراحات المطروحة وتعطى هذه الفرق صلاحيات واسعة في حدود الجزء المعنيين به، وهذا العمل الجماعي يتطلب سعة صدر وصبرا وتوثيقا واهتماما بكل صغيرة وكبيرة وثقة متبادلة وتدريبا مستمرا واهتماما من القيادات العليا بصورة تؤكد ان ما يتم اقتراحه سيتم تنفيذه وستتم مكافأة الجماعة (والتركيز على العمل الجماعي دائما) وعلى هذا الاساس فإن اليابانيين يرفعون شعارات تبدو وكأنها مستحيلة لغيرهم، ومن أمثال تلك الشعارات «الاخطاء تساوي صفر»، بمعنى ان الخطأ لا يحصل لذلك الجزء ولن يسمح له بالحصول. ومن الشعارات الاخرى «الزبون محق دائما» ويقصدون بذلك ان الزبون على حق في كل ما يريد ويطلب وان على من يقدم الانتاج ان يكون بالمستوى المطلوب، ومن الشعارات الاخرى احترام الوقت بكل معانيه، فالوقت أهم عامل لنجاح اليابانيين في ما وصلوا اليه، فاذا قال الزبون انه يريد شيئا في وقت محدد واتفق معه على ذلك، فان على المنتج ان يعمل المستحيل لكي لا يتجاوز ذلك الموعد. والوقت يتم الالتزام به في جميع الابعاد. وأمر آخر يتعبون عليه، بل ويزايدون فيه احيانا، موضوع التوثيق، فكل شيء يتم عمل ملف له يحتوي على كل صغيرة قيلت وعملت اثناء الاداء. وفق ذلك كله سمح اليابانيون بعملية الانتقاد البناء - بمعنى ان من ينتقد شيئا فإن عليه ان يطرح البديل وان يشارك في «التطوير التدريجي المستمر».
علينا أن نبدأ بالتفكير جديا في مستوى الأداء وجودته واحترام الابداع والتطوير والوقت، لأن الله قد أقسم «بالعصر»، علينا ان نغير أنفسنا وان نحترم أنفسنا وبعد ذلك سيحترمنا الآخرون، ويستجيب ربنا لأدعيتنا ويغيّر حالنا
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ