العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ

عندما يتوقف الزمن 14 قرنا: العراق نموذجا

كيف تخرج الأمّة من مزبلة التاريخ ؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في برنامج بثته الـ mbc بعد ظهر الجمعة الماضي عن العراق بعد العاصفة، استغربت المذيعة اللبنانية نيكول تنوري مما نقل عن جزئية بسيطة من الممارسات الفظيعة التي كانت تجرى في ظل نظام صدام، وهي الاعتداء على أعراض المواطنات العراقيات، وما ذكر فيه من حقائق عن دور اتحاد نساء العراق في اصطياد النساء الجميلات ليكنّ ضحايا نزوات صدام وولديه، وعن وجود عصابات في الكليات والجامعات العراقية تقوم بالمهمة القذرة ذاتها، ما جعل البعض يمتنعون عن إدخال بناتهم الجامعات للتحصيل العلمي، فيما انتهت الأمور ببعض الفتيات والزوجات إلى الانتحار أو القتل.

المتتبع لأحوال العراق لم تصدمه مثل هذه الحقائق الموجعة، لكن الأكثر إيلاما هو انك تقف على حقيقة أفجع وأمر: ان التاريخ العراقي - ومن ورائه التاريخ العربي كله - يتوقف عند أبواب الطغاة، ماداموا هم الذين يتحكمون في البر والبحر، والشجر والبشر، وإذا كان الخليفة الصالح في الزمن الأول ينبه واليه بمسئوليته عن بقاع الأرض و«بهائمها»، فان الولاة الطالحين لم يكن عندهم للإنسان قيمة ولا كرامة، على رغم أنهار الدم التي سالت وصبغت أرض الرافدين، فإذا بالحال على حاله، والدم يتخثر على الدم، والمقابر الجماعية تخرج مكنوناتها كل يوم، والسجون التي لم تُعرَف أبوابها بعد قد ابتلعت الأسرى من العراقيين وغيرهم عربا ومسلمين...

كل هذه القرون لم يحدث غير استبدال البندقية بالسيف، وعمامة الخليفة المذهّبة بالقبعة والطربوش... ومازال الدم يسيل.

أين الغرابة يا نيكول؟

هنا إذا موقع الجرح الأكثر إيلاما، أمة مكبلة مكممة، ليس لها حتى حرية الاحتجاج، وإذا اتيحت لها فرصة نادرة للتعبير عن نفسها تصايح الطبّالون محذرين من «غول الحرية». والنتيجة تستمر الديدان في التوالد في المياه الراكدة والمستنقعات، وهم سيتولون مواصلة الدرب القديم: تلميع القدور الصدئة ومكيجة الوجوه التي زحفت عليها التجاعيد.

على ان الرجوع إلى التاريخ مرة اخرى ينير إلينا الطريق، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه القرن الجديد بالقرون التي سبقته. ففي العراق نفسه قبل أربعة عشر قرنا كان والي الكوفة يصلي بالناس سكرانا حتى تقيأ ما شربه في المحراب، ولما تجرأ أحدهم ورفع صوته محتجا على عربدة الوالي وإطالته صلاة الصبح أكثر من ركعتين قال في تنمّر وعجرفة: «لو شئتم زدتكم أربعا أخرى»!

والكوفة يومذاك ولاية كبيرة تمثل جزءا مهما من الدولة الاسلامية يسكنها اكثر من مليوني نسمة على أقل تقدير، ربما نتخيل ثقلها بثقل سورية في العالم العربي اليوم. وفي الكوفة وقعت يومذاك فضيحة على غرار فضيحة مونيكا لوينسكي، بطلها والي الكوفة الذي يفترض منه أن يقيم الحدود ويطبق القانون فإذا به يزني بامرأة متزوجة، وجيء بالشهود الذين رأوا الميل في المكحلة وسمعوا الرهز والوكز... من الكوفة إلى المدينة أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فأخذ بالتحقيق معهم، فلما تلجلج الشاهد الرابع - زياد ابن أبيه - دفع عنه عمر إقامة الحد، في قصة مشهورة في التاريخ. هذا هو جزء من تاريخ البلد... فما الغريب في هتك أعراض العراقيات على يد الوالي الأخير صدام؟ ما الجديد الذي يستدعي الاستغراب؟

كلهم لا يساوون بقرة!

بلد يراوح مكانه في مجال عدم احترام الإنسان فلا يعيش شعبه في غير دائرة العبودية، مطلوب منه أبدا أن يبايع الوالي أوالخليفة أو الرئيس، فإذا قبض ملك الموت روحه المقدسة فعلى الشعب أن يبايع ابنه وابن ابنه... حتى تصل البيعة إلى الحريم! شعب لم يتح له غير ممارسة دور العبيد، ما الذي ينتظر منه؟ أيصمد أمام جحافل الغزاة؟ أتكون له مناعة وصمود؟ وبعد ذلك يتصايح «المثقفون»: لماذا لم يقاوم العراقيون؟ ولماذا لم تصمد بغداد؟ إذا كانت المدينة منتهكة من الداخل، مسلوبة الحقوق، لم يترك لها العدو الداخلي ثقبا في جدار الظلم لكي تشم من خلاله الهواء... فكيف ينتظر من هذا الشعب أن يقاوم الغزاة؟ على أن في العراق خيرا كثيرا ستخرجه الأيام والأشهر القادمة إن شاء الله.

ولكن، هل ما تحدثنا عنه أزمة خاصة بالعراق؟ أم انها أزمة عربية من الطراز الأول؟ ألا يئن المواطن العربي على هذه الأرض الممتدة من المحيط إلى الخليج؟ ما الفرق بين العراق وبين غيره من الدول؟ قد يفرق الأمر في درجات القمع، قد لا توجد مقابر جماعية، إلا ان الأزمة «الانسانية» تتكرر. وتبدأ كتابة المأساة من لحظة استباحة الانسان وسحق كرامته وشطبه من الحساب، وكلما نادى بحقٍ أو طالب برفع مظلمة تداعى عليه العسكر وانهالت عليه السيوف لإسكاته، وتكالبت عليه الأقلام المأجورة المسعورة، فالتهم جاهزة دوما: تمرد أو عصيان، ومحاربة الله ورسوله، والفساد في الأرض، وما جزاء من يفعل ذلك إلا أن يصلبوا أو يقتلوا، وملعون من يقول لا..

أحد السلاطين العرب في النصف الأول من القرن العشرين كان يمشي في السوق مع أحد مرافقيه الانجليز، فأشار إلى المارة بمهمازه وقال مخاطبا صاحبه: «هؤلاء أرخص من البقرة»، فلما أبدى الانجليزي القادم من الشمال دهشته قال السلطان موضحا: «البقرة لو قتلتها في الشارع لاضطررت إلى أن أدفع قيمتها إلى صاحبها، ولكن لو قتلت انسانا بمسدسي فلن يتجرأ أحد على مطالبتي بديته»!

طبعا كان السلطان المحترم يتحدث إلى صاحب موثوق، ولكنه لو تحدث مع الصحافيين في زمانه لقال أو كتبوا بالنيابة عنه إنه قال في تمجيد وتكريم وحماية الإنسان ما لم يقله الأوائل!

وإذا انتهى الامر بالعراقي إلى أن يقتل في السوق او على ناصية الشارع ولا يجرأ أحد على المطالبة بديته، فهذه هي الخاتمة، إنما البداية كانت عندما استبيحت كرامة الإنسان وديست، وكلما ارتفع طاغية فعلى أكتاف الملايين المسحوقة تقوم تماثيله. والعراق ليس النغمة الشاذة في المعزوفة العربية بل هي القاعدة الدائمة لأمة يحدّد مصيرها أفراد محدودون علما، ومتواضعون كفاءة، ومشكوكون ولاء. شؤون الحرب يقررها الرئيس بمزاجه وهواه، فإذا جاء الأميركان ليتفاوضوا فمع شخص واحد، هو الوحيد الذي يفهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتكنولوجيا والفيزياء الذرية و... حتى ينكفئ قائد الجيش ورئيس هيئة الأركان يبكيان عند النافذة فيما يتم تسليم البلاد والتفريط بكرامتها والتسليم بشروط الأعداء.

الأمة كلها تعيش الأزمة ذاتها، مادام حكم الفرد-الإله هو السائد، وستبقى الدولة بأجهزتها تسبّح بحمده وتقدّس له، وسيظل الناس عبيدا على أبواب الخليفة أدام الله سلطانه. وسيبقى مصير الأمة رهنا بإشارة إصبع واحد مادامت قرارات الحرب والسلام تخرج من رأس رجل واحد. وقرار مصيري يتعلق بالانسحاب من جامعة الدول العربية بما يمثله من انسلاخ من المحيط العربي، على رغم ما يقال عنها من شلل وتآكل وهوان، يخضع لمزاج الرئيس، حتى يذهب رئيس دولة أخرى ليقنع سيادته بتجميد الانسحاب، وكأن مثل هذا الموضوع وقف على مزاج الرئيس الملهم، لم يستشر فيه أحدا ولم يرجع فيه إلى رأي الشعب، وهل يرجع العاقل في مشورته إلى رأي أبقار سائبة؟ وإلى أن يأتي الزمن الذي ينظر فيه الحاكم العربي إلى شعبه أنه يساوي ثمن بقرة... هل يحق لنا أن نحلم بالخروج من مزبلة التاريخ؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً