اليوم تبدأ في واشنطن اجتماعات بين الاجهزة الاميركية الاستخبارية والعسكرية لمناقشة السياسة العامة في ايران وإمكانات التدخل في الخلافات الجارية بين ما يسمى بالمحافظين والإصلاحيين. ويرجح في هذا السياق أن يعيد البيت الابيض النظر في سياسته السابقة التي اعتمدت استراتيجية «الاحتواء المزدوج» منذ العام 1980.
الآن تغير الوضع ولم تعد سياسة الاحتواء قابلة للاستمرار بعد التعديلات الجوهرية التي حصلت في المنطقة وتحديدا في افغانستان وباكستان شرقا والعراق غربا ودول بحر قزوين شمالا. سابقا كانت سياسة «الاحتواء المزدوج» مفيدة للاعلان عن حياد الولايات المتحدة في الحرب العراقية - الايرانية التي استمرت ثماني سنوات. كذلك اتجه البيت الابيض بعد انتهاء حرب الخليج الاولى إلى اعلان تمسكه بسياسة الاحتواء خوفا من نشوء تحالفات اقليمية تضع مصالح الولايات المتحدة في دائرة الخطر الأمني.
وعلى رغم أن الولايات المتحدة لم تكن محايدة في سياسة الاحتواء الا انها نجحت في وضع مسافة سياسية بين مصالحها وتحالفاتها الاقليمية معتبرة أن المسألة الأهم ليس هوية النظام وثقافته بل استمرار انتاج النفط وتأمين نقلة برا وبحرا من دون تعريض خطوطه وناقلاته إلى هجمات تزعزع استقرار المنطقة وتهدد أمن الاقتصاد الغربي للقلق والاضطراب.
حتى حين اندلعت حرب الخليج الثانية (1990 - 1991) اتجهت واشنطن نحو ضمان حياد ايران مقابل استمرار سياسة الاحتواء التي تميل نحو استيعاب الضغوط من دون ان تكون هناك حاجة للتدخل العسكري بذريعة حماية أمن ناقلات النفط وخطوط النقل والامداد.
بعد 1992 حاولت واشنطن تعديل سياسة الاحتواء بالضغط على العراق ومحاصرته والضغط على ايران شمالا بعد اكتشاف كميات هائلة من احتياطات النفط في بحر قزوين. آنذاك كان الاتحاد السوفياتي قد انهار وانهارت معه اتفاقات ايرانية - سوفياتية وقعت في العام 1972 بين البلدين وتنص على مقاسمة شواطئ قزوين مناصفة بين طهران وموسكو.
إلا أن انشطار جنوب الاتحاد السوفياتي إلى خمس دول اسلامية (آسيا الوسطى) جدد طرح مسألة مقاسمة قزوين. فالاتحاد أصبح روسيا وروسيا باتت مجرد دولة من دول البحر. وايران باتت مضطرة إلى إعادة النظر في الاتفاقات ومشاركة الدول المطلة على قزوين في حصتها.
وتحت سقف المشاركة والمحاصة دخلت الولايات المتحدة على خط دول المنطقة وبدأت بتحريضها لتعديل الاتفاق مستخدمة علاقاتها المميزة مع تركيا.
فاندلعت معارك جانبية وبالواسطة في اكثر من دولة وانفجرت الحرب الاذرية - الأرمنية التي أنهكت قوى المنطقة واستنزفت المزيد من ثرواتها وأعطت شركات التنقيب الاميركية - البريطانية فرص توقيع اتفاقات خاصة مع الكثير من تلك الدول وتحديدا اذربيجان. وتحت ضغط دول البحر وتدخل دول شركات التنقيب والنفط في المنطقة تراجعت حصص روسيا وايران (50 في المئة لكل دولة) إلى 25 في المئة ثم إلى 20 في المئة ووصلت حصة طهران قبل ضربة 11 سبتمبر/ ايلول 2001 إلى 18 في المئة وكادت دول قزوين ان تنجر إلى مواجهات عسكرية بسبب تحالفاتها الاقليمية (مع روسيا وايران وتركيا). ونظرا لاهمية البحر ودور الشركات الاجنبية في الانتاج ومصلحتها في حمايته اتجهت دول قزوين إلى مزيد من التداول لحماية نفسها من ضغوط الدول الاقليمية الكبرى.
بعد ضربة 11 سبتمبر تغير الوضع وما كانت تفعله واشنطن سرا تحول إلى استراتيجية هجومية معلنة تحت شعار (الحرب على الارهاب) فكانت معركة افغانستان وتصفية نظام طالبان في كابول الامر الذي شرّع وجود القوات الأميركية في شرق إيران (باكستان وافغانستان) وفي شمالها اذ وقعت واشنطن سلسلة اتفاقات أمنية وعسكرية مع شريط الدول المسلمة الممتدة من غرب الصين إلى شرق جورجيا.
ضربة 11 سبتمبر قلبت الطاولة ولم يعد موضوع نفط قزوين مجرد مسألة اقليمية تعالجها دول البحر في لقاءات واتفاقات منفردة أو ثنائية أو ثلاثية أو رباعية تحولت إلى قضية دولية تمس مصالح الولايات المتحدة وأمنها السياسي والاقتصادي.
فعادت الضغوط على ايران للتنازل عن حصصها فتراجعت نسبتها من 18 إلى 12 في المئة، وهناك ضغوط لتخفضها إلى عشرة في المئة وربما إلى ثمانية في المئة.
كل هذه الأمور جرت قبل الحرب على العراق ودخول القوات الأميركية بغداد وإسقاط نظام صدام حسين. الآن وبعد كل الذي جرى من الفرات إلى النيل (خريطة الطريق، تهديد سورية، إندار حزب الله، تعيين رئيس وزراء فلسطين للمشاغبة على ياسر عرفات) بات الوضع أصعب من السابق. فايران باتت مطوقة من الشرق والغرب (العراق) ودول بحر قزوين ومن جهة مضيق هرمز ومياه الخليج.
لا شك في أن اجتياح القوات الاميركية للعراق أسهم في تغيير المعادلة وبات دور «اسرائيل» في المنطقة اكثر تأثيرا من السابق على توجهات واشنطن في دائرة «الشرق الاوسط» وايران تعتبر من الدول الفاعلة في صوغ سياسة المنطقة. لذلك تجد تل ابيب أن هناك فرصة جديدة باستخدام قوة الولايات المتحدة لكسر توازنات إقليمية تحد من حرية حركتها وتصرفاتها. كذلك هناك مصلحة أميركية في الاقلاع عن سياسة الاحتواء المزدوج لان تلك الاستراتيجية لم يعد لها معنى بعد احتلال العراق. بل إن المصلحة تغيرت من الاحتواء إلى سياسة تحريك الوضع الداخلي الايراني لمنع طهران من التدخل في الدول المحيطة بها وتحديدا العراق الجديد (الأميركي) ولبنان (حزب الله) وفلسطين (الموافقة على خريطة الطريق) وأخيرا التخلي عن البرنامج النووي لانتاج الطاقة.
إيران اليوم في وضع صعب إذ تمارس عليها وضدها الكثير من الضغوط الخارجية تحت شعارات ومسميات مختلفة الا أن الجديد فيها هو انتقال واشنطن، بعد احتلال كابول وبغداد، من سياسة الاحتواء إلى استراتيجية هجومية جديدة تعتمد سياسة العزل تمهيدا لتحريك الأوضاع الداخلية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ