العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ

حياة روائية وحياة من أجل الرواية

ألكسندر العظيم

باريس - دانيال برمون 

تحديث: 12 مايو 2017

إذا كان بلزاك يشكل عالما واسعا بحد ذاته، وستاندال مثالا للذكاء، وهوجو حقبة جديدة، فدوما هو جسد، جسد مارد في حركة دؤوبة، سخي ونشاطه لا يهدأ ويبقى مكشوف الصدر في معظم الأحيان، لديه شيء يشبه الفارس ليس من حيث الهيبة، فهي ليست مؤثرة، بل في شهيته للحياة التي يظهرها في كل المواقف، ويا لها من حياة! فحياة ألكسندر دوما هي فعلا رواية لا تقل عربدة عن أعماله.

ولد ألكسندر دوما من أب كانت له رتبة عميد في جيش نابليون بونابرت. وكان الأب نفسه منحدرا من أحد المستعمرين الأثرياء في سان - دومانج. ووالدته سوداء. ينتمي ألكسندر إلى جيل الرومانسيين الذين شربوا لبن الملحمة الثورية والامبريالية والذين كان دائما يغريهم استرجاعها في قصصهم ومسرحياتهم وأشعارهم لأنهم لم يعايشوا ضجيجها وجنونها. كان من الصعب في تلك الحقبة من العام 1820 عدم ملاحظة ألكسندر دوما داخل الصالونات الباريسية ببشرته الداكنة اللون والشعر الكثيف المجعد وهي سمات تشير الى اصله، اذ كان يخالط المجتمع الراقي الذي كان مفتونا به فيلتقي بهوجو ونرفال وجوتييه وفينيي الذين كانوا يشاركونه الأفكار المثالية نفسها كما كان مقربا من دوق اورليان الذي كان ألكسندر أحد أفراد سكرتاريته ثم أصبح بعد ذلك أمينا لمكتبه. إلا أن ثورة 1830 لم تجده الى جانب مستخدمه الجليل بل التحق بصفوف الجمهوريين المعادين لكل أشكال الحكم الملكي ووقف وراء المتاريس بجانب المتمردين الأكثر تطرفا.

عرف اللذة حتى الإدمان

ان هذا الرجل الذي كان له صوت يدوي كالرعد، جبل على الشجاعة والتضحية بالنفس، لا يتردد في منازلة الآخرين والمبارزة معهم ولو لأتفه الأسباب، ويعشق ملذات الحياة حتى الادمان ولم يتوقف يوما عن الكتابة. كان يتفجر حيوية، يمضي الليل منكبا على العمل في مكتبه بينما نجده في النهار يرفرف كالفراشة من صالون إلى آخر. لا يعبأ بالوفاء للنساء اللواتي يحبهن، فخلف وراءه الكثير من الأبناء غير الشرعيين، فكان أشهرهم ولده البكر ألكسندر دوما الابن الذي ولد العام 1824 وهو مؤلف كتاب «غادة الكاميليا».

ومما لا شك فيه أن افكاره السياسية خفت مع مرور الزمن وأن الراديكالية التي اعتنقها في شبابه غدت أقل حدة. كانت تلك ضريبة الشهرة الادبية والاجتماعية التي حظي بها آنذاك. بيد أنه كان بحلول العام 1848 لايزال مستمرا في التهليل لعودة نظام الجمهورية. بل كان يعتقد بإمكان لعب دور سياسي ما في فرنسا التي كانت قد اطاحت لتوها وللمرة الثانية بالملك. وها هو يرشح نفسه للانتخابات التشريعية إلا أن رصيده الهزيل من الأصوات (11 في المئة) أقنعه بالتخلي والى الأبد عن أي نوع من العمل العام داخل بلده على الاقل. إلا أن عشقه للحرية كان لايزال يتملك فؤاده ما دفعه الى نابولي وصقلية في العام 1860 على خطى غاريبالدي صاحب فكرة الوحدة الايطالية والذي مده بالسلاح وأنشأ معه LصIndependente وهي صحيفة القمصان الحمراء. وقد بدا ألكسندر دوما حتى النهاية رجلا دمويا متعطشا للتضحية بنفسه من دون رادع من أجل القضايا التي تؤرقه، بل وأيضا من أجل المتعة والملذات، فكان يقيم الولائم والحفلات التنكرية في قصر مونت كريستو الخلاب ذي الطراز القوطي الحديث والذي عني بزخرفته من الداخل على الطراز المغربي وكان قد بناه في غابة سان - جرمان أون ليه القريبة من باريس. وقد كانت هذه الحفلات والولائم تزخر بفيض من الطعام والمجون وألوان المرح المختلفة.

ولم يكن من طبع ألكسندر دوما القبول بأنصاف الحلول فهو يريد كل شيء في التو واللحظة إلى درجة أنه لم يكن يفهم عدم امكان تذوق الطعام الباريسي نفسه في أقاصي الشيشان التي وصل اليها في العام 1858 بصحبة كلابه وعشيقاته. ولا ينبغي أن ننسى أنه قام بتأليف قاموس كبير في الطهي نظرا إلى خبرته في مجال الطبخ وشهيته الكبيرة.

وماذا عن أعماله وسط هذه الأنشطة الكاسحة؟ انها موجودة ومتعددة وغزيرة وفياضة - ويمكننا تشبيهها بوجبة من تلك الوجبات التي كان يحبها - وهي قبل كل شيء ثمرة مجهود لعمل دؤوب مثابر مارسه، فتمكن من حبك الكثير من العقد المتشابكة في آن واحد مظهرا قدرة لا تنضب على الكتابة سعيا منه إلى تدارك الوقت الضائع في الاهتمام بالنساء الجميلات.

ونبقى مذهولين أمام ما كان لديه من سهولة في كتابة عدد من الروايات، تقريبا في الوقت نفسه، أو أوقات متقاربة، مثل «الكونت دي مونت كريستو» و«الفرسان الثلاثة» و«الملكة مارجو» و«بعد عشرين عاما» و«جوزيف بالسامو» و«غادة مونسورو» و«الكونتيسة شارني» و«فيكونت براجلون» وهي جميعا روايات نشرت بصورة مسلسلة في صحف يومية واسعة الانتشار مثل «لا بريس» و«الكونستيتوسيونال» كما اقتبس بعضها للمسرح.

عبقرية الإخراج

دوما يعتبر اساسا كاتبا مسرحيا فهو يدين لمسرحيته «هنري الثالث وحاشيته» وانتشارها الواسع بالطفرة التي مهدت له الطريق العام 1829 لدخول الساحة الادبية وكان هذا قبل موقعة «إيرناني» الشهيرة لهوجو بعام. وبعد ذلك بفترة تمكن أيضا من تثبيت نجاحه عن طريق المسرح وخصوصا من خلال مسرحيتي «أنطوني» و«لاتور دونسل».

وليس من المدهش في شيء أن تتشابه حوارات رواياته مع الردود المسرحية إذ نجد فيها الحيوية التي تأتي لتعويض نسق أدبي يشوبه النقص أحيانا. ولكن، ورغبة منا في ايجاد الأعذار له، هل كان لدى دوما الوقت لتنميق نصوصه؟

فمن أجل الوفاء بديونه التي لا تنتهي، تماما مثل بلزاك، كان عليه أن يكتب بأسرع ما يمكن حتى يستطيع الالتزام بالمسلسلات اليومية التي كان يتقاضى عن نشرها أجرا بواقع ثلاثة فرنكات لكل سطر. وبالاضافة الى هذا لا يخفى على أحد أنه كان يستخدم مساعدا أو أكثر من أشهرهم اوجوست ماكي الذي كان كاتبا كثير الانتاج لكنه رديء الأداء.

يبقى أن ألكسندر دوما الروائي الشعبي كان يتمتع بعبقرية في فن الاخراج وأعماله احرزت ومازالت تحرز نجاحا عالميا قلما وصل اليه غيره، محققا ثروة نادرا ما تحقق مثلها. ويكفي في هذا الرجوع الى جمعية أصدقاء ألكسندر دوما للتحقق من أن هذا الكاتب لايزال حيا الى يومنا هذا ولا يتوقف الناس عن قراءة أعماله مرارا وتكرارا. ألم يقل الرئيس الصيني السابق زيانج زينيم عن «مونت كريستو» أنها الرواية المطلقة؟ وهو حكم يمكن ايضاحه برقم واحد فقط: هذه الرواية تم اقتباسها أكثر من ثلاثمئة مرة على الشاشتين الكبيرة والصغيرة. لذلك يعتبر دوما بجدارة منبع الالهام الأدبي للمخرجين وليس فقط في فرنسا، فبدءا من «فرسان الملكة» للمخرج ملياس العام 1903 وحتى «الفرسان الثلاثة» للمخرج ستيفين هيريك العام 1993 لاتزال شخصية دارتانيان تلهب الخيال... ولا يهم ان تم تغيير القصة. هناك عبارة شهيرة لم تتضح من خلالها شخصية زير النساء هذا اذ يقول: «الحقيقة التاريخية هي أشبه بفتاة يمكن اغتصابها شرط ان نمكنها من انجاب أطفال». أليس من المنصف أن تستقبل فرنسا رفاته أخيرا في البانتيون بمناسبة مرور مئتي عام على مولد استاذ السحر الأدبي الرومانسي الذي ولد في 24 يوليو/تموز 1802؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً