العدد 263 - الإثنين 26 مايو 2003م الموافق 24 ربيع الاول 1424هـ

ملامح من المشهد الشعري العراقي

يروى ان بدر شاكر السياب خرج يوما الى بساتين النخل في جيكور (1) ليأنس الى صوت الماء وهو ينساب في بويب (2)، عل القصيدة تأتيه، ولم تأت.

وعندما عاد إلى المنزل بعد هزيع من الليل، سألته عمته، هل جاءت؟ فقال: «اكتب النخل اذا امتنعت علي القصيدة».

ويقول الشاعر طالب عبدالعزيز، والذي عجنته البصرة بألمها ومائها ونخلها:

«سدنة النخل

اولئك الذين أكلت الحبال خصورهم

وحفرت المرادي ما بين اضلاعهم

اولئك الذين تقفز عضلات أرجلهم

كالارانب المطعونة عند المشي

لا نحن الذين فقأنا عيون العمر

بين حائط الموت وحائط العمر الآخر

في زاوية الملح

بينما تموت بين افخاذنا ضفادع لينة

على ظهرها زغب قميء».

اما ادونيس، فيسكنه حلم فتى الكوفة، وتستعصي عليه مفردات المدينة، فيقول: «لملاك النخل حديث لا يفهمه الا اطفال الكوفة».

وعليه فان الشعر لدى العراقي هو وطن مفترض او بديل، لو ان هناك بديلا للوطن، ومعه يخرج المكان - الجغرافيا - من حدوده، ليصل الى الامكانات البكر والخبيئة في النفس، ويصبح الحديث عن علاقة المكان بانتاج المفاهيم والمضامين والصور الشعرية للفعل الابداعي المتواصل والموصول حديثا غير مسوغ، ويصب القرب استثناء، والبعد قاعدة تتمحور حولها وترتكز ملامح هوية مجبولة بالخوف والحنين والتشتت، ويتوزع العراقي ما بين المنافي، كل يشكل وطنا على شاكلة قلبه ومدى حزنه وعمق حنينه. ويكثف الشاعر العراقي هذه الجدلية، خصوصا اذا ما كان منفيا في الوطن او من الوطن، ويصبح الشعر هنا المنقذ الوحيد له من الجنون، لذلك فهو يعاين بالشعر ويعود مربكا، يحاول اعادة تركيب اجزائه وذاكرته، فالشعر عنده يبقى احتمالا اكثر يسرا من احتمال الانقطاع والجنون. فيتداخل حينها الشعر بالوطن او الوطن بالشعر.

واذا ما كانت اللغة شرطا معرفيا، فان في اشكال تعبيرها معيارا لمدى كشفها، وعندها لا يعود الشكل مجرد إناء او لباس، بل طاقة للتوليد والابداع، انطلاقا من كونها - أي اللغة - منظومة من العلاقات بين الكلمة والكلمة، بين الكلمة والشيء، بين الانسان والعالم، وهنا لا تعود اللغة الشعرية عموما، والعراقية خصوصا، مجرد شاهد على الوجود، بل كينونة متحركة وفعالة.

لذلك ليس من الصعب ان يختار العراقي مفاتيح انشاده الشعري، يكفيه ان يمد يده ليقطف من لغته لغة مكثفة، كما الرطب والتمر، وغنية بالطمي كما الفرات ودجلة، وجدلية كجدلية الكوفة والبصرة على نائب الفاعل، أي البناء للمجهول...، وكأن العراقي منذور للمجهول والعراق مبني على المجهول...، لهذا يمعن العراقي في معرفته بعراقه حصانة من الجهل والجهالة.

ويمد يده أو يراعه الى قلبه... فماذا في القلب؟

في القلب ذاكرة للموت وكأنه وحده هو الحياة «أترى... هذا وطن أم مقبرة؟».

ولكن العراقي ملزم بالصبر، لان العراق صعب دائما، لانه جميل مطلقا، ولكنه يبقى مسكونا بالعودة ولو مشيا على الاقدام او على القلب او على الرأس.

«ليت السفائن لا تقاضي راكبيها على سفار،

او ليت ان الارض كالافق العريض بلا بحار...»

يريد السياب ان يعود... لكنه عاد جثة، فاشتعل الشعر من حوله واشتعل العراق بالجهل والاستبداد.

ويكثف مظفر النواب مادة الصبر والانتظار والامل من خلال حياة الورد وعلاقة العاشقين بالورد، وعمره وانتظار الوصل:

«شقد ندى نقط ع الضلع

ونسيت اقلك يمتى

شقد رازقي ونيمته

وشكثر هجرك عاشر ليالي الهوى وما نمته...».

اهم ما في الشعر العراقي، قديمه وحديثه، عموده وشعر التفعيلة، او قصيدة النثر، انه موصول بالموروث، بالمنجز، بالاصل، مطل على لحظته، شكلا ومضمونا، موزع على محطات تتلون بلون السماء والارض، ووجه الانسان العراقي وغضونه الممتلئة تعبا ونعاسا وخوفا واملا بالحرية وزيارة العتبات المقدسة، لان المثال مضموم فيها، اما المشهد، اما الحاكم الشاخص في مختلف العهود، فهو تكرار لـ «يزيد» على تشويه اضافي يأتي من ادعاء المعرفة والحداثة. في حين كان يزيد يعترف بجهله وعدم عنايته بالعلم والشعر والدم والدين والمدينة والكعبة والسبط وكل القيم.

واذا كان لابد من مثال، فان خمريات او غزليات العالم العراف والمجاهد السيد محمد سعيد الحبوبي تعتبر تأسيسا في محاولة التلوين الشعري المفتوح على ايقاعات الحداثة المضبوطة بقيد اخلاقي داخلي يزيد الشعر كثافة ووهجا.

من هنا كان الموشح مضماره الامثل:

اسقني كأسا وخذ كأسا اليك

فلذيذ العيش ان نشتركا.

واذا انتقلنا الى محمد مهدي الجواهري الذي اطل على الشعر من موقع متوتر ذاتيا، ومتوتر اجتماعيا وسياسيا مترافقا مع الحرب الاولى والاحتلال البريطاني بعد ثورة العشرين وشهادتها والعقوبة عليها من خلال الدولة الوطنية المصادرة بالوصاية البريطانية.

نامي جياع الشعب نامي

حرستك آلهة الطعام

جوع ونوم عميق، اذن يتعطل التاريخ.

ويهتف الجواهري في تأبين شهيد ثائر لكل الذين ارادوا للتاريخ ان يمشي على قدميه وقدموا دماءهم رواء ودواء.

«ولثمت جرحك في فتحة

هي المصحف الطهر اذ يلثم»

ثم يعود الجواهري الى كربلاء، مستمدا نسغه الشعري والجهادي:

«فداء لمثواك من من مضجع

تنور بالابلج الاروع

يا واصلا من نشيد الخلود

ختام القصيدة بالمطلع».

ويناضل الجواهري شعرا، فتفتح له ابواب المنافي، ليشبع نفيا، ثم يعود ليستريح في عراقه.

«ارح ركابك من أين ومن عثر

كفاك جيلان محمولا على خطر»

وتخاطبه الكوفة فيرد عليها مخاطبا:

«يا بن الفراتين قد اصغى لك البلد

ظنا بأنك فيه الصادح الغرد

انا ابن كوفتك الحمراء لي طنب بها

وان طاح من اركانه عمد».

ويبني الجواهري قصيدته الجديدة على خريطة قصيدة البحتري المتجددة، ليأتي الشعر النجفي خصوصا والعراقي عموما حاشدا بالرؤية، هاجسا بالقضايا الكبرى، وتحتل فلسطين موقعها:

«لو استطعت لنشرت الحزن

على فلسطين مسودا لها علما

رمت السكوت حدادا يوم مصرعها

فلو تركت وشأني ما فتحت فما».

ويقول مصطفى جمال الدين:

«يبس الجرح فانتفض يا شهيد

نام عن ثأرك الكماة الصيد»

ويصرخ ايضا: «ما بعد عار حزيران لنا عار»

وعندما يلاحظ ان بغداد محاصرة بالاستبداد والقتل والتخلف، يستذكر ماضي نهوضها بعد المذابح العظمى:

«بغداد ما اشتبكت عليك الاعصر

الا ذوت ووريق عمرك اخضر»

وعندما تكتئب عقيلته بسبب بعدها القسري عن العراق، يرى العراق فيها، ويراها في العراق:

«عودي فقد ضيعت بعدك ذاتي»

وبعدما كان قد استبشر عندما ايقضت فيه روح الشباب والحب:

«إيه شمس الخريف نامت مواويلي تعبي وهوّمت أطياري

فلماذا اثرتها؟ ثم من دلّك يا حلوتي على اوكاري».

وتجد نفسك مع جمال الدين في مساحة جمالية متأنية من التراث القديم، مارة بالشعر المهجري، معرجة على بدوي الجبل مع علامات نجفية لا تقلد، لانها من خصوصيات جوار يعسوب الدين علي وحركة المعرفة والموقف الحاسم.

وتدشن نازك الملائكة بالتنازع مع السياب تاريخ القصيدة الحديثة، وتشم رائحة الحبيب في تراب العراق المعطر بالمطر «كرائحة الارض غب المطر».

ويبلل المطر العراقي روح السياب، فيرى حبيبته بين سحاباته الهاطلة من دون أن تصل الى ارض العراق خيراتها :

«ما مر عام والعراق ليس فيه جوع

وتطحن الشوان والحجر

رحى تدور في الحقول

حولها بشر

مطر... مطر...».

وترتبط الحداثة الشعرية بالجدل العراقي، كأن ابا العتاهية وابا تمام قد عادا ليكسرا عمود الشعر وليقيما عليه جمالا فنيا لا ينتهي، وتمر الحداثة بيوسف الصايغ و(رياح بني مازن) الى سعدي يوسف وجدارية فائق حسن «تطير الحمامات في ساحة الطيران...

ضيق أيها المتدارك....

كل اهل دارين جاؤوا...».

ونصل الى نثر فاضل العزاوي:

«من انت؟

انا خمسة حزيران العربي

انا اسبوع سقطت منه الايام على عاطفة الشرق

انا حرب على نفسي

نزلت من قامة شعبي امرأة

ورمت نهديها في الماء وقالت:

فليتقدم من يخطب امرأة الحرب....

سلاما ايتها المرأة...

يا واقفة تحت غيوم الليل انتظري

جيلا عربيا من عبس

جيلا عربيا كالشمس».

هذا بعض شميم العراق، من دون ان ننسى علي الشرقي ومحمد رضا الشبيبي والرصافي ورباعيات الاصفهاني ورشاقات السيد احمد الهندي.

مع السياب ختاما، لان السياب هو الجذر في حداثة العراق والحداثة العربية... فالسياب هو العراق... والعراق هو السياب.

«بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة

غنيت تربتك الحبيبة

وحملتها

فأنا المسيح

يجر في المنفى صليبه».

وتسري عدوى العراق الى زائريه، فيمسي عراقا للجميع، لانه حزين، والحزن يجمع ويفجر الشعر.

«مرحبا يا عراق

جئت أغنيك

وبعض من الغناء بكاء».

هذا هو جدل الحزن والفرح في العراق، وسيبقى الى ان يعود العراق الى فعله يوم كانت الكوفة وكان علي يسعيان لكون العالم قائما على نصاب انساني عام.

«مداخلة القيت على هامش معرض الكتاب الدولي السادس عشر الذي اقيم في طهران بين الرابع والرابع عشر من شهر مايو/ ايار من هذا العام تحت عنوان «المشهد الشعري العراقي».

هامش:

(1) جيكور، قرية من قرى محافظة البصرة، مسقط رأس السياب.

(2) بويب، نهير يمر بالقرب من جيكور ويخترق بساتين النخل فيها





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً