انتقد عبدالله يتيم - قبل سنوات قليلة - التعامل العربي المتسم بالسلبية مع منجز كلود ليفي ستروس الأنثروبولوجي، بوصفه منجزا تأسيسيا أولا، وبصفته فتحا له مكانته الخاصة في سياق تطور وتبلور الدرس الأنثروبولوجي. لقد دعا يتيم وقتها (1998) إلى ضرورة مراجعة الإرث البنيوي، كونه إرثا يحفز على تخليق الأفكار، منتقدا في الوقت عينه التلقي العربي. لقد رأى يتيم عقما واضحا بدا له شاخصا في كيفية استقبال العرب لستروس، على رغم إسهاماته العميقة في هذا المجال، وقدرته بمفرده على سحب حيز من البساط الواقع تحت الهيمنة الأنجلوساكسونية، مشكلا بإنجازاته وأبحاثه نوعا من القطيعة عن الدراسات الأنثروبولوجية السابقة ذات النسق التاريخي المحض، أو الأنثروبولوجيا الأميركية ذات الطابع السيوسيولوجي.
وفي الإطار نفسه استند يتيم إلى هذا الحكم من منطلق جهود ستروس التي عملت محركا ألهب خيال عدد غير محدود من الأنثروبولوجين العاملين في أنثروبولوجيا المعرفة والأنثروبولوجيا الرمزية، كما أطلق - يتيم - هذا الحكم كون ستروس نجح في نقل الممارسة الإثنوغرافية من فضاء الكتابة الوصفية، والانتقال بها إلى حيز السؤال الفلسفي، إضافة إلى عمله، في إنشاء معادلات صارمة طبقها لسبر الظواهر الثقافية، ناهيك عن إسهاماته الفريدة في معالجة الموضوع الأنثروبولوجي الأثير وهو القرابة. كما رأى يتيم أن هذا الإرث على رغم التعامل الأميركي الذي اتسم بالنقد العنيف بوصفه محض طلاسم فهو ليس سببا كافيا يجعلنا ننأى عن الإفادة من الرجل.
وبعد ذلك بفترة وجيزة خرج علينا يتيم بسفره الثاني 2000 الذي جمع بين دفتيه مجموعة من السير الذاتية والحوارات لعدد من أهم رموز علم الأنثروبولوجيا، ولأبرز ممثلي مختلف التوجهات التي نقلت هذا العلم من الإطار التأسيسي الذي قدمت نفسها به إلى الناس، إلى فضاءات أرحب، وربما أكثر تعقيدا في اكتناه الظواهر الثقافية ذات الصلة بالإنسان، وأكثر وعيا وقدرة - في الوقت نفسه - على سبر مختلف الظواهر، وقراءة العلاقات في أي مجتمع من المجتمعات التي درسوها. إن هذا الجهد الذي سماه يتيم «دفاتر أنثروبولوجية» انطوى في سياق تقديم هذه الشخصيات ومن بينها: ستروس، إرنست غلينر، ريموند فيرث، كليفرد غيرتز، وعربيا حسين فهيم وأحمد أبوزيد على أهمية بالغة الخطورة، إذ كان الاختيار الموفق والدقيق لنصوص الحوارات والسير، ملبيا رغبات أولئك الذي تخصصوا في هذا العلم، أو أولئك الذين يرومون معرفة في حدود معينة بهذا العلم الأكثر حداثة من بين العلوم الأخرى، لجهة منجزاته، وأهم أعلامه، وخصوصا أولئك الذين تجاوزوا بعملهم المنطلقات والمرامي الأولى وأصبحوا يمثلون تيارات واتجاهات ومدارس ومنهجيات نالت اعترافا واسعا، وقدمت قراءات لافتة للظواهر والمجتمعات التي درسوها، أو النصوص التي فحصوها على اعتبار أن تيارا واسعا منتميا إلى ما بعد الحداثة انحصر اشتغاله على قراءة النصوص وفحصها، على حساب العمل الحقلي الأثنوغرافي. لقد كانت الاختيارات ذكية لاسيما وأنها تتسم بالتنوع والشمول، دون أن تقوم بمفاضلة لاتجاه قائم برأسه على حساب غيره، ودون بذر أحكام قيمية تنحاز لتوجه على حساب آخر، بقدر ما ترمي إلى رسم وتقديم صورة معشقة بالاتجاهات كافة. والأهم من كل ذلك أنها تقدم معلومات وافرة لا على المنجز فحسب، بل على مختلف التأثيرات والمقدمات والأسئلة المفصلية التي دفعت صوب تطوير العمل، وخلق مناظير جديدة للنظر إلى الظاهرة / الظواهر في المجتمع قيد القراءة والفحص.
وبين الكتابين كان يتيم - وفي غير مناسبة - يحاول تسليط الأضواء على الأنثروبولوجي الإنجليزي الراحل غلينر وعلى جهده بوصفه أحد أبرز الأسماء التي لمعت في قراءة الإسلام في علاقته بالقبيلة كحالة معاشة في مجتمع بربر جبال الأطلسي خصوصا، وبكونه لم يكن مجرد باحث أنثروبولوجي، بل متنوع المواهب، مبرز في الفلسفة، ومتمكن في العلوم الاجتماعية، كما شكلت المقالات المكتوبة في هذا السياق منافحة عنه بوصفه ناقدا لمحاولات تقليص هذا العلم وتحجيمه كما جاء عند زمرة من علماء الأنثروبولوجيا الأميركيين الذين أسسوا بحثهم على (النص - الكتابة) عوض الوقائع الاجتماعية، ومدافعة عنه أمام الهجمة التي أطلقها إدوارد سعيد على غيلنر بوصفه مجرد مستشرق - بالمعنى السلبي - ومدع لا يعرف لغة المجتمعات التي يكتب عنها، وكان ذلك تحديدا في العدد 21 من مجلة البحرين الثقافية 1999، إذ خصصت المجلة ملفا عن غيلنر بمناسبة رحيله عن دنيانا.
وسواء بالنسبة إلى ستروس أو الحوارات، فإن الجهود التعريفية التي قدمها يتيم - وإن لم تخل من ملاحظات نقدية - يحكمها إطار نظري معين، ينحاز في كثير من الأحيان إلى الجانب التعليمي/ التعريفي / الإخباري، وهو جانب مهم في ظل خلو الساحة المحلية من مجهودات مشابهة، إلا من نتف تلتقي أو تمس خفافا جنبات هذا العلم... إن ما دعاني لكتابة هذه الأسطر هو النشاط الماثل ليتيم خلال الفترة الماضية، وكانت حصيلته دراسة منشورة في العدد الرابع من مجلة «ثقافات» خريف 2002 تحت عنوان «سعيا وراء الوقائع الإثنوغرافية: بعض من البدايات الأوروبية» ويقرأ فيها تأثير التدوين الوصفي على النظرية، إضافة إلى مراجعة نقدية رصينة لكتاب بيتر لينهارت «مشيخات شرق الجزيرة العربية»، وقد نشرت في الصحافة المحلية ثم أعيد نشرها في العدد الثالث من إصدار «حصاد»، إضافة إلى دراسة ثالثة نشير إليها بعد قليل.
وما أريد قوله - وهو أمنية شخصية - بعد هذه الجولة إن عبدالله يتيم بوصفه أحد المتخصصين في بحث مسألة علاقة الإسلام بالقبيلة كان قد ألمح في غير إسهام له، ونذكر تحديدا في دراسته الموسومة بـ «المعالجات الأنثروبولوجية لمشكلة الضبط الاجتماعي في المجتمعات القبلية الإسلامية» والمنشور باللغة الإنجليزية في مجلة دلمون عدد رقم 16 (1993 / 1994)، أو في دراسته التي طورت الطرح في الدراسة المذكورة، والمنشورة في العدد الأخير المتميز من مجلة العلوم الإنسانية التي تصدرها كلية الآداب في جامعة البحرين (ع 6، صيف 2003) تحت عنوان: «الأنثروبولوجيا إزاء مشكلات السلطة والضبط الاجتماعي في المجتمعات القبلية الإسلامية، مراجعة نقدية» إضافة إلى إشاراته المنثورة هنا وهناك في غير مقابلة أجراها، ومقال حبره، ودراسة ترجمها، ومراجعة نقدية قام بها، لتدعونا إلى أن نأمل بأن تظهر الدراسة التي أجراها يتيم وبذل لإنجازها سنوات، لتعضيد هذا الجهد بشكل يتمحور حول قراءة أطروحته الأساسية بوصفه أحد الدارسين الأنثروبولوجيين المحليين، ممن ينتمون عمليا إلى مرحلة متقدمة في سياق التطور الذي شهده هذا العلم
العدد 262 - الأحد 25 مايو 2003م الموافق 23 ربيع الاول 1424هـ