موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي على «خريطة الطريق» نقلت الصراع على فلسطين من مستواه الحربي إلى مستوى آخر من المواجهات تلعب فيها السياسة دور المحرك الرئيسي في المرحلة المقبلة. هذا لا يعني أن السياسة كانت غائبة في الفترة الماضية أو أن الصراع المسلح سيختفي من واجهة المواجهات في المرحلة المقبلة... إلا أن الجديد في الموضوع هو انتقال المعركة من ساحة التراشق ضد الاحتلال إلى ساحة دبلوماسية تلعب فيها الإرادة السياسية دورها في تقرير وجهة «الخريطة» و«الطريق» الذي يجب أن تسير عليه.
الموافقة الإسرائيلية لم تكن سهلة وهي جاءت بعد مناورات مدروسة قام بها الجنرال ارييل شارون مع حليفه الرئيسي في العالم الرئيس الأميركي. وحين تم تمرير «الخريطة» في مجلس الوزراء جاءت الموافقة بعد سجال طويل وفاز شارون بالتصويت. فالموافقة كانت صعبة وجاءت مشروطة بسلسلة ملاحظات لمح إليها رئيس الوزراء ووزير خارجيته مرارا من خلال رسائل أو تصريحات صحافية أو بواسطة حقائب دبلوماسية واتصالات جرت مع مسئولين في البيت الأبيض والكونغرس.
الرد الأميركي على تلك الملاحظات لم يكن سلبيا بل مال إلى تفهم مواقف شارون ووعد بمعالجة بعض النقاط واشترط الموافقة المبدئية على خطة الطريق قبل الشروع في الضغط على الجانب الفلسطيني والأطراف الثلاثة الأخرى المشاركة في صوغها للقبول بتعديل بعض أجزاء طريق الخريطة.
المسألة إذن لم تصل إلى نهاية الشوط، بل إنها ارتقت من مستواها المسلح إلى مستوى آخر من الصراع السياسي. فالخريطة ليست نهائية وفق التصور الإسرائيلي والتفهم الأميركي لملاحظات شارون يعني فتح باب التعديل على طرق المواصلات وتحويل الخريطة إلى ورقة قابلة للنقاش. والنقاش بدوره يطرح سلسلة احتمالات منها فشل توصل الأطراف إلى صيغة جديدة وموحدة وبالتالي تفكيك «خريطة الطريق» وإعادة إنتاج سلسلة بدائل تؤدي في المستقبل إلى تشكيل سلة من خرائط الطرق يصعب تجميعها مجددا في دائرة واحدة تتوافق كل الجهات عليها.
الرد الفلسطيني على الموافقة الإسرائيلية الصعبة والمشروطة بملاحظات كان واضحا في اعتراضه. فالجانب الفلسطيني الذي وافق على خطة الخريطة كما هي من دون ملاحظات أو تعديلات استجابة لتهديدات أميركية وخوفا من إنذارات أرسلتها واشنطن طالب أيضا إدارة البيت الأبيض المعاملة بالمثل: إما أن تسمح للطرف الفلسطيني بوضع ملاحظاته وتعديلاته، وإما أن تمنع الطرف الإسرائيلي من وضع ملاحظاته وشروطه على الموافقة المبدئية التي نالها شارون في مجلس الوزراء.
الرد الفلسطيني جاء بناء على معلومات سربتها الصحافة الأميركية، تقول: إن شارون أبلغ الإدارة أن لديه 15 ملاحظة على الخريطة وطالب واشنطن بقبولها شرطا للموافقة. إدارة البيت الأبيض أرسلت إشارات تطمين لترضية الطرف الإسرائيلي وذكرت ان الرئيس يوافق على تعديل 12 نقطة مستثنيا ثلاث نقاط تتعلق بمبادرة الأمير عبدالله التي وافقت عليها قمة بيروت وتحولت عموما إلى مبادرة عربية إضافة إلى إشارات تذكر القرارات الدولية والعودة إلى حدود 1967 وإمكانات البحث في موضوع اللاجئين والقدس والدولة.
التلميحات الأميركية إلى القبول والاعتراض أزعجت شارون فقرر عدم الذهاب إلى واشنطن والالتقاء ببوش كما كان مقررا... إلا أنها شجعته على المضي في قبول الخريطة إذا كان لا مانع أميركيا من تعديل بعض نقاطها. فالقبول ببعض التعديل يفتح أمام شارون باب الدخول في تفاصيل جديدة ومواصلة الضغط على إدارة بوش لاحقا لانتزاع تلك النقاط التي رأت واشنطن تأجيل البحث بها إلى وقت آخر يكون مناسبا أكثر للبيت الأبيض للضغط على الطرف الفلسطيني وربما الأطراف العربية المعنية بالقضية.
والضغوط الأميركية المحتملة على الجانبين الفلسطيني والعربي واردة أكثر في فترة بدأ الرئيس بوش يستعد لجولة رئاسية ثانية في السنة المقبلة. واحتمال أن تمارس واشنطن ضغوطها على الطرفين الفلسطيني والعربي، مرجحة أن تحصل خلال زيارة بوش المتوقعة في يونيو/ حزيران المقبل لتفقد قواته الفائزة في معركة عسكرية ضد دولة عربية. فبوش الفائز عسكريا يريد ترجمة معركته في انتصار سياسي «شرق أوسطي» يعطي «إسرائيل» ما لا تملكه وينتزع من الفلسطينيين ما يطالبون به من حق وحقوق عادلة نصت عليها المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن.
هناك معركة سياسية إذن ستشهدها المنطقة العربية في وقت بات الصراع على فلسطين مسألة فلسطينية يمنع على الأطراف العربية التدخل فيها حتى لا يتعطل «الحل» الذي قررته «اللجنة الرباعية» في «خريطة الطريق». والخريطة على علاتها وسلبياتها تبدو للجانب الإسرائيلي كثيرة على الشعب الفلسطيني، ويريد شارون تعديلها شرطا للموافقة المبدئية والصعبة عليها.
وهذا أسوأ سيناريو يمكن تصوره. وفي حال حصل ووافقت واشنطن على ملاحظات شارون وأدخلتها في اعتبارها تعديلات على الخريطة تكون المنطقة أمام مواجهة سياسية غير متوازنة: شارون ومعه بوش المسيطر عسكريا على العراق يقابل سلطة فلسطينية منقسمة مدعومة بوضع عربي متردد وغير موحد على موقف مشترك من الموضوع ومسألة الصراع ضد «إسرائيل».
إنها معركة سياسية كبيرة يعرف من الآن من هو المنتصر في نهايتها. ونهايتها ليست سعيدة لأن الدول العربية ستكون بعد سنة من الآن أمام سلة من «خرائط الطرق» تبدأ من فلسطين وتنتهي في مصبات كثيرة من المحيط إلى الخليج
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 262 - الأحد 25 مايو 2003م الموافق 23 ربيع الاول 1424هـ