لعل المشكلة التي بدأت تتغلغل في نفوس كثير من المواطنين هي مشكلة شراء أرض من أجل بيت المستقبل. وهذه المشكلة بدأت تتحول إلى «حلم غير قابل للتحقيق» بالنسبة إلى قطاع واسع من الناس. فخلال أقل من عام ازدادت أسعار الأراضي بمعدل عشرين في المئة وهي مؤهلة لمزيد من الازدياد ما يعني أن مقولة أحد المتخصصين «ان هذا الجيل ربما يكون آخر جيل يشتري أرضا» قد اقتربت من التحقق.
ازدياد أسعار الأراضي سببه شح الأراضي من جانب، واحتكار فئة صغيرة حركة بيع وشراء الأراضي من جانب آخر. فحتى مطلع الثمانينات كانت القرى الواقعة على خط شارع البديع مملوءة ومحاطة بالنخيل والمزارع المملوكة لأهالي تلك القرى. أما الآن فأهالي القرى نزحوا إلى داخل قراهم في بيوت أثرية وقديمة بينما تحيط بهم من كل جانب قصور ومجمعات سكنية لا يمكنهم رؤية داخلها لأن الجدران مرتفعة جدا وكل مجمع تحرسه مجموعة من العاملين لدى صاحب العقار ليل نهار.
وتحولت النخيل خلال فترة وجيزة إلى جدران في كل مكان، بل إن الساحل تم بيعه أو استملاكه حتى قبل دفنه، بطريقة ما، وتم حجب أكثرية مناطق البحرين عن البحر. وعندما تحاول أن تشاهد ساحل البحر في المنطقة الغربية فأنت تجازف بنفسك لأنه قد يتم اعتقالك لدخول أرض الغير من دون رخصة. فقد تم حجب القرى بصورة شبه محكمة وتامة وأصبح المواطن يعيش مع بقية أفراد عائلته في بيوت ورثوها من آبائهم وأجدادهم.
وساهمت في تصعيد الأسعار عملية منظمة نشطت منذ عدة سنوات لقتل الزرع عمدا بوسائل متطورة، مثل رش مواد قاتلة للزرع، أو تعطيش الزرع، ما أدى إلى خسائر فادحة. فالمنطقة الممتدة بين بني جمرة والمرخ والقريّة كانت مملوءة بالنخيل والأشجار والثمر وتم قتل الزرع عمدا، وحاليا يتم قتل الزرع المتبقي. وما على أي شخص إلا زيارة المنطقة ليشاهد بأم عينيه ما يجري هناك. وقد صرفت الدولة ملايين الدنانير لتوصيل المياه المعالجة إلى هذه المنطقة، والآن وبعد اكتمال الشبكة لم يعد هناك زرع وإنما أرض استملكت بصورة ما وتم قتل زرعها ونزحت تربتها وتم تخطيط المنطقة والإسمنت بدأ يرتفع بعد أن قطعت الأغصان.
الذين قاموا بهذا العمل ويقومون بالعمل نفسه في مناطق البحرين المختلفة قلة قليلة، ولكنهم أقوياء ومتنفذون ولا تسري عليهم أية قوانين. فبعد أن يسيطروا على الأرض ويقتلوا زرعها يعرضونها للبيع، والمشتري لا يكون من أبناء المنطقة لأن أهل المنطقة لا يستطيعون دفع المال المطلوب لشراء الأراضي.
الأراضي الزراعية قتلت وهي لاتزال تُقتل على رغم محاولات جادة ظهرت أخيرا من مسئولي وزارة الزراعة لمنع ذلك. والسواحل - سواء كانت بحرا أم دُفنت - تم تمليكها لمجموعة صغيرة أيضا تستطيع أن تبيع الأراضي بالأسعار التي تحددها وهناك من يشتري، ولكن الذي يشتري ليس المواطن العادي الذي يرى نفسه محاصرا من كل جانب بالجدران الإسمنتية التي ترتفع عاليا لتمنعه حتى من رؤية ما يتم تشييده داخل تلك الجدران.
هناك الكثير من الخليجيين الذين لديهم المال، وهذا أمر مشروع لا عيب فيه، غير أن شراءهم مرتبط أيضا بأن تكون الأرض إما سكنية وإما استثمارية وهذا يدفع الذين استملكوا أراضي زراعية إلى تدمير الزرع. فبمجرد تدمير الزراعة يرتفع سعر الأرض عدة مرات، وفي بعض المناطق يزداد عشر مرات مباشرة.
وزارة الداخلية قالت أمام البرلمان إنها جنست 52 ألف شخص، وعدد من الذين تم تجنيسهم لديهم أيضا من الأموال ما يستطيعون به شراء الأراضي التي لا يقدر على شرائها المواطن العادي. وبحسب أصحاب مهنة العقارات فإن حجم الاستثمار في العقارات بلغ العام 2002 مستوى 247 مليون دينار. وهذا الارتفاع المتصاعد في حجم الاستثمار يزداد قرابة عشر مرات على النمو في أموال الناس العاديين. بمعنى أن المواطن العادي يحتاج إلى عشر سنوات من الدخل المتزايد ليصل إلى زيادة سعر الأرض في سنة واحدة.
والمرء لا يستطيع إلا أن يندهش من هذا الانفلات في السوق العقارية التي لا ترتبط بالمواطن العادي، بينما هناك من المسئولين الصغار والكبار من استطاعوا تملك قطع شاسعة من الاراضي، ما جعل الدولة هي المالك الأصغر. والآن الدولة في ورطة كبيرة، فهي إن أرادت استعادة ملكية هذه الأراضي (التي لم يدفع بعض من استملكها دينارا واحدا) فإن عليها أن تدفع ملايين الدنانير من موازنة الدولة وهو أمر اكبر من طاقتها. واستمرار هذا الأمر يعني أن الدولة ستصبح مع الأيام أكثر عجزا عن استملاك أي أرض من أجل أي إصلاح في الأمر، لأنها ستدفع بسعر السوق قيمة الأراضي التي تود استملاكها.
أما المساحة المعروضة للاستملاك فهي قليلة جدا، ويقدرها العقاريون بعشرين في المئة من شمال البحرين. وهذا يفسر أيضا لماذا تضطر الآن بعض الوزارات إلى النظر في إمكان استملاك أراض تابعة للأوقاف الجعفرية لأنها (الأوقاف) عجزت (لأسباب مختلفة ومنها القائمون على الأوقاف لسنوات طويلة) عجزت عن تسجيلها باسمها. في الماضي كان الناس يحترمون الأوقاف، وفي كل مرة يخاف شخص ما على أرضه لسبب ما يعلن أنه أوقفها، وبالتالي تتم حمايتها دينيا، لأنه كانت هناك عقيدة آمن بها الجميع بأن أموال وأراضي الأوقاف حرام ومن يلمسها «يصيبه مكروه». أما اليوم فالأوقاف ليست لها تلك الحرمة السابقة لأسباب عدة لا مجال لذكرها.
كل هذا يدعونا جميعا إلى التفكير مليا في المواطن العادي الذي سيجد نفسه غريبا اقتصاديا وربما اجتماعيا وسياسيا في الغد ما لم يشعر أن بلاده تستطيع احتضانه كما احتضنت أجداده
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 261 - السبت 24 مايو 2003م الموافق 22 ربيع الاول 1424هـ