إلى حديث الطبقات جاء حديث انقسام الأمة الى فرق ليلقي الضوء على جوانب كثيرة وقعت لاحقا بعد انقضاء الصدر الاول من تاريخ المسلمين.
فالحديث عن الانقسام وتوقع تفكك الأمة الى فرق استخدمته كل المذاهب الاسلامية لاحقا لتأكيد شرعيتها وصحة وجهة نظرها. فكل مذهب او فرقة او مدرسة قالت بحديث الفرق إلا انها اختلفت على المقصود بالفرقة الناجية وهو امر ساهم في تحديد رؤية تاريخية للوعي الاسلامي وفهمه الخاص للانقسام والافتراق.
ماذا يقول حديث الفرق؟ نُقل الحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله (ص) تفرقت اليهود على احدى وسبعين فرقة او اثنتين وسبعين، والنصارى مثل ذلك، وتفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة». وروي الحديث عن انس بن مالك، ان رسول الله (ص) قال: «ان بني اسرائيل تفرقت احدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وان امتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، تهلك احدى وسبعون وتخلص فرقة، قالوا: يا رسول الله، من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة».
وعلى رغم الاختلاف في عدد الفرق (73 عند أبي هريرة و72 عند أنس) وفي عدم اشارة الحديث الاول إلى الفرقة الناجية وتحديد الحديث الثاني الفرقة الناجية بالجماعة، شكل الحديث نقلة نوعية في الوعي التاريخي عند المسلمين الاوائل واتخذه العلماء حجة في تفسير الاختلاف وقراءة افتراق الفرق وأعدادها وأنواعها.
ولم يتفق اهل العلم والرأي على شرح موحد لحديث الافتراق فقال بعضهم إنها ستة: الحرورية، والقدرية، والجهمية، والمرجئة، والرافضة، والجبرية. وقسم بعضهم كل فرقة من الفرق الست الى مجموعات وصلت عند بعضهم الى 73 وبعضهم الآخر الى 72 فرقة. فابن الجوزي مثلا ينقل عن بعض اهل العلم قوله: «انقسمت كل فرقة منها على اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة». ويعدد ابن الجوزي في كتابه «تلبيس ابليس» اسماء 72 فرقة فوزعها 12 مجموعة على الفرق الست.
وقبل ابن الجوزي ذكر عبدالقاهر البغدادي (توفي في 429 هجرية) في كتابه «الفرق بين الفرق» إن الفرق الاسلامية تفرعت على ثمانية اتجاهات: الروافض، الخوارج، المعتزلة، المرجئة، النجارية، البهمية، الكرامية، والمشبهة. ويعدد الى جانب الفرق الاسلامية 20 فرقة غير مسلمة انتسبت عن غير حق الى الاسلام.
واختلاف اسماء الفرق وتعدد فروعها ومجموعاتها واتجاهاتها بين البغدادي (توفي في 429 هجرية) وابن الجوزي (توفي في597 هجرية) يؤكد على استخدام العلماء واهل التأريخ حديث الافتراق بأساليب غير موحدة تخضع الى معايير الزمان واختلاف الظروف والبيئات.
ولم يقتصر الاختلاف على هذا المستوى بل تتابع وتنوع بين فترة واخرى. فأستاذ البغدادي الامام أبي الحسن الاشعري ألف في السياق المذكور كتابه الشهير «مقالات الاسلاميين» ذكر فيها الفرق وتعدد اتجاهاتها ومدارسها واختلف تقسيمه للفرق عن تلميذه. كذلك اختلف منهج قراءة الحديث وتقسيم الفرق عند ابن حزم الاندلسي (توفي سنة 456 هجرية) في كتابه «الفصل في الملل والاهواء والنحل» عن منهج الشهرستاني (توفي سنة 548 هجرية) في كتابه «الملل والنحل».
ويرجح ان كتاب «التنبيه والرد على اهل الاهواء والبدع» لأبي الحسين محمد بن احمد بن عبدالرحمن الملطي الشافعي (توفي سنة 377 هجرية) هو الاول في هذه السلسلة من الكتب أو على الاقل هو اول من افرد كتابا يتناول هذا الصنف من الخلافات (الفرق والبدع والملل والنحل). واستمر التصنيف في رصد الاتجاهات والاختلافات والمدارس على مر العصور. فمثلا يوزع علي بن محمد بن عبدالله الفخري (القرن التاسع الهجري) في كتابه «تلخيص البيان في ذكر اهل الأديان» الفرق الاسلامية الى 73 كالآتي: 18 فرقة من اهل السنة والجماعة، 18 فرقة من الخوارج، 18 فرقة من الشيعة، و18 فرقة من المرجئة.
وعلى رغم اختلاف تصنيف الفرق وادخال اتجاهات عند مؤرخ واخراج فرق ومدارس عند مؤرخ آخر وذلك بحسب البيئة الاجتماعية - الثقافية والظروف السياسية والفترة التاريخية لم يلجأ احدهم الى التكفير بل اكتفى معظمهم باستخدام مفردات كالبدعة أو الخروج على السنة. فالاشعري مثلا ميز بين «مقالات الاسلاميين» و«مقالات غير الاسلاميين»، والبغدادي حدد عناصر الاختلاف بين «الفرق الاسلامية» والفرق«غير الاسلامية». كذلك فعل الشهرستاني وابن الجوزي والفخري ومعظم العلماء الذين اشتغلوا في هذا الحقل الخطير في تاريخ المسلمين.
الكل تقريبا اتفق على رفض التكفير وحرص معظمهم على شرح آراء الفرق والطعن في بعض نظرياتها من دون التطرق الى مسألة الكفر. فالمسألة كانت عرض وجهات النظر قياسا على الشرع فخرجت الكثير من الفرق وبقي الكثير منها في دائرة الاسلاميين كان ابرزها المعتزلة وفرقها التي لعبت دورا مهما في التاريخ العقائدي - السياسي الاسلامي مع انها كانت الثانية في التعاقب الزمني اذ سبقتها الخوارج وفرقها. إلا ان المعتزلة فاقت الخوارج في تحليلاتها واستنتاجاتها النظرية بينما فاقت الخوارج المعتزلة في برامجها السياسية وتحدي السلطة الاسلامية من طريق العنف. فالمعتزلة طغى عليها التوجه الايديولوجي باستثناء فترة محددة استولت خلالها على السلطة بينما طغى التوجه السياسي على الخوارج منذ الاختلاف على مسألة التحكيم في عصر الخليفة الرابع
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 259 - الخميس 22 مايو 2003م الموافق 20 ربيع الاول 1424هـ