في 13 يوليو/تموز 1977 حدث انقطاع للتيار الكهربائي عن جزء من مدينة نيويورك، وذلك لأسباب فنية. واستمر الانقطاع لأجزاء كبيرة من المدينة لعدة ساعات وأدى ذلك الى حدوث فوضى في حركة المرور وإغراق أحياء بكاملها في الظلام إلا انه من اللافت للنظر، انه بعد مرور نصف ساعة على انقطاع التيار بدأت حملة واسعة للسلب والنهب في متاجر نيويورك صغيرها وكبيرها شارك فيها بعض من أهالي المدينة من بيض وسود وأصول إسبانية وكان ذلك استغلالا بشعا لغياب قوة الشرطة وعدم استطاعتها الوصول الى المناطق التي تتم فيها السرقات إضافة الى تعطل أجهزة الإنذار والحماية. وكان ذلك حدثا مهما وفريدا في تاريخ الولايات المتحدة الى درجة ان مجلة «تايم» أفردت عددا خاصا للموضوع.
وفي 12 سبتمبر/أيلول 2001، وفيما كانت نيويورك تضمد جراحها بعد حوادث 11 سبتمبر قام منتسبو دائرة الإطفاء في نيويورك بسرقة محلات المجوهرات القريبة من برجي التجارة العالمية. وعندما علم الرئيس جورج بوش بالأمر استاء وطلب من الاعلام الأميركي عدم التحدث عنه لانه سيشوه صورة رجل الإطفاء الأميركي في نظر الشعب. إلا ان إحدى الصحف المحلية في نيويورك نشرت الخبر.
ومن المعلوم ان المسئولين الأميركيين وفور حدوث حال اضطراب مدني (وهي عبارة مهذبة لوصف حال الانفلات الأمني) في أي من الولايات الأميركية، فإنهم يتخذون اجراءين على الفور الأول هو إعلان المنطقة منطقة كوارث، والثاني استدعاء الحرس الوطني في الولاية الذي يحق له عندئذ استخدام أسلحته لإطلاق النار لإيقاف أي أعمال سلب ونهب في تلك المنطقة او الولاية.
أما العراق فقد سبق له ان مر في تاريخه الحديث بحالة النهب والسلب في ظل فراغ السلطة؛ ففي العام ,,1941. وبالذات في نهاية شهر مايو/أيار على إثر سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني ووصول الجيش البريطاني والجيش العربي الأردني الى مشارف بغداد، فقد توقف البريطانيون على أبوابها مما شجع مجاميع من الرعاع على سلب ونهب المحلات ليومين متواصلين، بعدها فقط دخلت القوات البريطانية بغداد لكي تفرض النظام وتم لها ذلك في ساعات. وكانت حوادث مشابهة قد حدثت في البصرة في الفترة ذاتها؛ عندما قامت القوات البريطانية بكسر أقفال المحلات في سوق البصرة الشهير المسمى (سوق الهنود)، ودعت سكان الأحياء الفقيرة الى فتح أبوابها ونهب موجوداتها فيما بقيت تتفرج على المنظر!
وقبل ان ندخل في صلب الموضوع لابد من تسجيل التحفظ الشديد على ما عرضته الفضائيات العالمية عن أعمال السلب والنهب التي جرت في بغداد بعد يوم 9 ابريل/نيسان ,,2003. وذلك لانها لم تتناول الأسباب الحقيقية لها وتناولتها بشكل مجتزأ، والأعمال لا يمكن فصلها عن المسببات، وهذه قاعدة فقهية وقانونية.
لقد بدأت أولى أعمال النهب والسلب عصر يوم 9 ابريل، عندما غادرت الدبابات والمدرعات الأميركية قصر السلام في منطقة المنصور، بعد ان كانت قد أمضت ليلة 8 و9 في القصر الذي دكته الطائرات الأميركية دكا عنيفا خلال الأيام التي سبقت ذلك. فلقد تحركت الدبابات والناقلات الأميركية باتجاه ساحة الاحتفالات في وسط بغداد، وتركت أبواب قصر السلام مشرعة؛ ومن ثم توجه وفد من القوات الأميركية الى مستشفى الجيبة جي في منطقة الحارثية، إذ دعي مديره منقذ الجيبة جي وموظفي المستشفى الى انتهاز الفرصة ونهب موجودات القصر من أثاث ومحتويات.
وعلى إثر ذلك، قام عدد من أهالي حي الحارثية وجميعهم من الأثرياء الذين تقدر ثرواتهم بعشرات الملايين من الدولارات بعملية نهب منظمة ومنهجية لمحتويات القصر. وجرت عمليات السلب والنهب طيلة ليلة 9 و10 ونهار يوم 10 ابريل، وشاركت بها نساء يقدن سيارات فارهة، وتمت هذه العملية فيما كانت مدرعات الجيش الأميركي تقترب أحيانا وتبتعد من هذا القصر. وقد جرت محاولة قام بها فدائيو صدام لإعادة احتلال القصر. أصيب فيها عدد من الأشخاص من بينهم الجيبة جي فيما قتل عدد واعتقل عدد آخر!
ان المجاميع الأخرى التي جاءت الى هذا القصر من مناطق أخرى وبالذات من الأحياء الشعبية الفقيرة لم تأت الا صباح يوم 11 ابريل أي بعد اكثر من 36 ساعة على بدء عمليات النهب والسلب التي تمت بمساعدة ومباركة من القوات الأميركية التي قامت بأعمال مشابهة منها على سبيل المثال لا الحصر ما جرى في قصور بنات صدام الواقعة في منطقة الجادرية على ساحل دجلة. إذ ان المسئولين عن هذه القصور قد استبقوا وقبل قيام الحرب احتمالية قصفها بالطائرات الأميركية، لذلك فإنهم قاموا بإخلاء موجودات القصور الى مواقع أمينة داخلها وقاموا بإغلاقها. وفعلا قام الطيران الأميركي بقصف هذه القصور طيلة فترة الحرب وبقيت المخازن التي تحتوي على أثاث هذه القصور ومقتنياتها سالمة، وما ان دخلت المدرعات الأميركية مجمع القصور بعد ان طوقته حتى قامت بتفتيشه بشكل دقيق وعندما تأكدت من خلوه من أي شخص او معدات قامت بكسر أقفال المخازن التي كان الأثاث مخزنا فيها. ومن ثم استدعت أعداد من سكنة حي الكرادة القريب وطلبت منهم اخذ الأثاث، ومن ثم انضمت أعداد من سكنة حي الجادرية الراقي الى عمليات النهب!
أما عمليات نهب محتويات السفارة الألمانية والمركز الثقافي الفرنسي، فإنهما تما بإشراف ومباركة وحراسة القوات الأميركية.
من ناحية أخرى قامت مجاميع منظمة من العراقيين وبتوجيه ضباط مخابرات دولة عربية باقتحام أبنية محددة في مدينة بغداد منها على سبيل المثال سوق الرصافي قرب تمثال الشاعر معروف الرصافي، وقامت بكسر أقفال المحلات في تلك السوق المتعددة الطوابق، وبعد ان تمت سرقتها يتم إحراق هذه المحلات... ويذكر ان هذه السوق متخصصة بالملابس والمستلزمات الشخصية. والبغداديون الذين راقبوا أعمال السلب والنهب والحرق تيقنوا ان هذه العمليات كانت تتم تحت نظر وبصر القوات الأميركية وبتشجيعها... كما ان من كان يقوم بعمليات النهب والسلب غير من كان يقوم بعمليات الحرق.
وقد نقل عن أحد الأشخاص الذين قابلوا جاي غارنر من ان قال له «لو أردتم لأوقفتم عمليات السلب والنهب خلال نصف ساعة»... وعندما سأله غارنر: كيف؟ أجابه العراقي «بمجرد إعلان الأحكام العرفية وقيامكم بإطلاق النار على السراق، فإنكم ستوقفون النهب والسلب».
غير ان عدم اتخاذ القوات الأميركية إجراءات رادعة من أجل وقفها جعلها تتطور باتجاهين: الأول، سرقة السيارات بصيغة السلب بالإكراه. والثاني، هو خطف الفتيات والنساء من الأماكن والشوارع العامة.
والخلاصة ان ظاهرة النهب والسلب التي تستمر وبعد مرور أكثر من شهر على سقوط بغداد، تبدو للوهلة الأولى جزءا من الطبيعة الإنسانية الميالة لاقتناص الفرص والاستفادة منها وضرب القيم والأخلاق والتقاليد والقوانين عرض الحائط، إلا ان ما لمسه البغداديون هو أن عمليات النهب والسلب تجري بصيغة منظمة ومنهجية وبتشجيع من قوات الاحتلال ربما لغاية في نفس القوات الأميركية أظنها تتمثل في زرع روح العجز والاستسلام في النفوس تمهيدا لقبول كل ما سيأتي لاحقا!
العدد 259 - الخميس 22 مايو 2003م الموافق 20 ربيع الاول 1424هـ