المكان المناسب الذي اختاره محمود عباس لاستقبال وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول، مكتب يقع في طبقة مستأجرة بمدينة رام الله. وحين يتحدث رئيس الوزراء الفلسطيني مع الزوار القادمين من أوروبا والولايات المتحدة فإنه سرعان ما يكشف أنه العنصر الضعيف في السلطة الفلسطينية، إذ ليس لدى عباس سوى الحديث عن المشكلات التي يعاني منها. على رغم توليه السلطة منذ أكثر من أسبوعين لا يملك أجهزة تعمل تحت إمرته. لكن واشنطن ترى في عباس الذي درس التاريخ والحقوق ويقضي أوقات الفراغ في دراسة الأشعار العربية، مفتاح الحل للنزاع الصعب في الشرق الأوسط، وتأمل أن يساعد في إنهاء الانتفاضة المستمرة منذ عامين وكذلك وضع حد للعداء بين الفلسطينيين والإسرائيليين ونهاية عاجلة لأعمال العنف والعنف المضاد.
إن استمرار أعمال العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يسهم فقط في تسميم علاقات الدولة اليهودية مع جيرانها العرب وإنما تشكل أيضا أكبر حجر عثرة أمام الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في تحقيق السلام بمنطقة الشرق الأوسط. منتشيا بالنصر العسكري السريع على العراق يريد بوش دخول التاريخ بوصفه جورج العرب وراعي منطقة للتجارة الحرة في الشرق الأوسط والرجل الديمقراطي الذي حقق السلام في المنطقة برمتها، وبالنسبة إلى بوش فإن الرجل الذي سيساعده في مهمته هو محمود عباس.
وقد عبر بوش عن إعجابه بالتصريحات التي صدرت عن رئيس الوزراء الفلسطيني التي عبر فيها عن رفضه للإرهاب وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية. لكن كم هي جدية مساعي بوش هذه المرة؟ لم يوفر الرئيس الأميركي التأكيد أكثر من مرة في الماضي على نواياه لكن كل مرة لم ينفذ ما وعد به. بعد حرب العراق اصبح من الطبيعي على الاستراتيجيين في إدارة بوش، تنفيذ الوعود التي قطعوها للعالم العربي، فقد ذكرت واشنطن مرارا في السابق أن الطريق إلى القدس وإلى حل سلمي لنزاع الشرق الأوسط، يمر عبر بغداد.
كما كان من وجهة نظر البيت الأبيض، استخدام القوة العسكرية لإطاحة نظام صدام حسين، خطوة وقائية ضد ما يعتبره الأميركيون بلدا يساند جماعات إرهابية في المنطقة مثل حزب الله وحماس في الحرب ضد «إسرائيل». وفقا لمبدأ بوش، فإن رغبة الصقور في إدارته، العمل على محاسبة سورية وإيران. وبعد حرب العراق أيضا أصبحت منطقة الشرق الأوسط مشكلة مهمة للرئيس بوش والوضع المعقد بالكاد يوفر لبوش فرصة للتفرقة بين الصالح والطالح في المنطقة. فالرئيس السوري بشار الأسد الذي تتهمه واشنطن و«إسرائيل» بدعم المتطرفين اليوم، قد يقبل غدا التفاوض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون.
في الوقت الجاري ليس هناك مكان تسوده الفوضى مثل العراق. بعد وقت على نهاية الحرب، ليس هناك بصيص أمل بتحقق الديمقراطية ومستقبل واعد وعلى الأقل عودة الهدوء لحياة العراقيين. فقد انتشر مرض الكوليرا في مدينة البصرة ويقف العراقيون في صفوف طويلة أمام محطات البنزين وتنقطع الكهرباء كل ساعتين وتمتلئ الشوارع بأكوام المهملات. وترى صحيفة(نيويورك تايمز) أن هذه الفوضى حصيلة الفراغ الذي تسببت به إدارة بوش نتيجة فشلها في تشكيل حكومة على وجه السرعة مكان النظام السابق. ويأتي تعيين بول بريمر حاكما مدنيا على العراق خلفا للجنرال المتقاعد جاي غارنر، علامة على سوء تقدير الأميركيين للوضع في العراق. كما ينبغي على الجنود الأميركيين البقاء فترة أطول في العراق وضد حسابات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. كما ينبغي على الأميركيين وضع استراتيجية تتماشى مع وليس ضد الغالبية الشيعية في العراق التي حصلت على النفوذ بعد انهيار حكم حزب البعث العربي الاشتراكي وحصلت على وقود بعودة آية الله محمد باقر الحكيم الزعيم الشيعي الذي أعادت صور عودته ذكريات عودة آية الله الخميني العام 1979 إلى طهران بعد سقوط نظام الشاه رضا بهلوي.
في الغضون، تجري المناقشات السياسية الساخنة عن مرحلة ما بعد حرب العراق في الأمم المتحدة واصبح الأميركيون على استعداد لقبول دور لمبعوث عن الهيئة الدولية للأزمة العراقية ودور للهيئة الدولية في الإشراف على توزيع المساعدات الإنسانية. لكن ألمانيا وفرنسا وروسيا تطالب بأن تلعب الأمم المتحدة دورا مهما في بناء نظام سياسي جديد في العراق. ترمي واشنطن بداية إلى موافقة مجلس الأمن على قرار يقضي بوقف العقوبات المفروضة منذ العام 1991 على العراق، ما سيعطي الضوء الأخضر لها لوضع يدها على مبلغ عشرة مليارات دولار موجودة بحوزة الأمم المتحدة ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء. لكن في القريب ستشتد المنافسة على نفط العراق ولا تريد الولايات المتحدة منح فرنسا وروسيا فرصة الانتفاع من الغنيمة العراقية ولا أحد يستطيع التنبؤ مسبقا بمصير العقود التي تم توقيعها بالخصوص بين شركات فرنسية وروسية مع الحكومة السابقة في العراق. للدلالة على تعنت واشنطن، اتهمت كوندليزا رايس فرنسا باحتجاز حرية حلف شمال الأطلسي بالتصرف لإلحاق ضرر بالولايات المتحدة كما قامت فرنسا حسب أقوال رايس بتهديد دول أوروبية صغيرة إذا ساندت الولايات المتحدة في الحرب. وقالت رايس إن الولايات المتحدة لم تسهم في حصول انقسام في أوروبا بشأن الحرب وحملت المسئولية فرنسا وألمانيا.
جددت كوندليزا رايس تهديداتها لسورية وقالت إن الولايات المتحدة مضطرة للتصرف إذا ثبتت الاتهامات التي تزعم أن سورية خبأت أسلحة للدمار الشامل قام العراقيون بتهريبها. في زيارته الأخيرة لدمشق استخدم وزير الخارجية الأميركي لهجة حادة خلال اجتماعه بالرئيس الأسد. تعبيرا عن حسن النوايا أمر الأسد بإغلاق مكاتب ثلاثة منظمات تصفها الولايات المتحدة بأنها إرهابية في دمشق وعقب الرئيس الأميركي على هذه الخطوة بقوله: إننا واثقون أن الحكومة السورية فهمت تماما ما نعنيه ونصدق أنها مستعدة للتعاون معنا. يعلم بوش أن المرحلة الحالية تتطلب المزيد من العمل السياسي وبصريح العبارة: المزيد من جهود باول والقليل من جهود وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. والهدف الرئيسي للسياسة الأميركية في المنطقة: حل نزاع الشرق الأوسط.
إنه النزاع الذي يعتبر أيضا مشكلة سياسية داخلية لبوش. فالجماعات المسيحية المتطرفة التي تشكل عماد الحزب الجمهوري الحاكم، تصف مبادرة السلام الأميركية الجديدة بأنها عمل شيطاني. ولفت الأنظار بصورة أكبر، ما قام به 87 من أعضاء مجلس الشيوخ إلى جانب 297 من أعضاء البرلمان بتوقيع نداء يحمل الفلسطينيين مسئولية استمرار نزاع الشرق الأوسط وكانت المفاجأة التي تضمنها النداء مطالبة «إسرائيل» في التحفظ بتقديم تنازلات.
يرمي باول في زيارته المنطقة إلى الدعوة إلى البدء بتنفيذ خريطة الطريق وأن يعمل محمود عباس بأسرع وقت بالسيطرة على أجهزة الأمن الفلسطينية التي تتنافس فيما بينها وأن يجري وقف أعمال العنف التي تقول واشنطن وتل أبيب إنها تنطلق من المناطق الفلسطينية المحتلة. ويتعين على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يعمل في المقابل بإزاحة كل حواجز التفتيش في قطاع غزة ووقف سياسة الاستيطان. لكن بوش يخشى أن يلعب دور الوسيط الأكبر في هذا النزاع وأن تشغله الوساطة عن حل المشكلات الاقتصادية داخل بلده، ما سيعرضه إلى المصير الذي لقيه والده. بعد حرب الخليج العام 1991 أراد جورج بوش الأب تحقيق السلام في الشرق الأوسط لكن حين تمت المصافحة التاريخية في حديقة البيت الأبيض بين عرفات ورابين كان بوش الأب قد خسر منصبه لصالح بيل كلينتون.
ليس لدى بوش الكثير من الوقت ليمنحه لنزاع الشرق الأوسط. في أقصى حد، مطلع العام 2004 سينشغل بالحملة الانتخابية. وهذا ما يعرفه جيدا رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون ولهذا يلعب الأخير بعامل الزمن. إنه يطالب محمود عباس، كشرط مسبق، أن يحسم المعركة لصالحه ضد العنف وأن يسيطر على حماس والجهاد الإسلامي قبل أن تنشغل «إسرائيل» في التفكير بتنازلات، أما التنازلات المؤلمة التي طالب رئيس الوزراء السابق إيهود باراك في مقابلة مع مجلة (دير شبيغل) بتقديمها الآن، فيعتزم شارون تأجيلها بحجة أن الوقت غير مناسب.
على الطرف الآخر، يطالب محمود عباس بأن تعمل «إسرائيل» في تخفيف الضغوط التي تفرضها على الشعب الفلسطيني ويرى أن «إسرائيل» أكبر حجر عثرة في طريقه. صحيح أن محمود عباس رئيس مجلس للوزراء قوامه 24 وزيرا كما هو رئيس على 120 ألف موظف في مؤسسات السلطة الفلسطينية، غير أن الدمار الذي ألحقه الإسرائيليون بمؤسسات كثيرة تابعة للسلطة الفلسطينية نتج عنه تدمير بنيتها التحتية وسوء أوضاع الموظفين في هذه المؤسسات الذين لم يحصلوا على رواتبهم منذ اشهر. إضافة إلى ذلك فإن أجهزة الأمن الفلسطينية مصابة بالشلل. كما جاءت خطوة عرفات بتشكيل مجلس للأمن القومي لتعرقل جهود عباس في جمع أجهزة الأمن تحت إمرة وزارة الداخلية.
تستفيد القوى الفلسطينية المتطرفة من الثغرة القائمة نتيجة المنافسة بين أطراف القيادة الفلسطينية وتعتبر خريطة الطريق استسلاما وهددت في الأسبوع الماضي بأعمال عنف جديدة. هذه أقوال يعرف شارون كيف يستغلها فقد اعتبرها سببا يدفعه إلى تأجيل النظر في المبادرة الأميركية على الأقل حتى موعد اجتماعه المقبل مع الرئيس بوش في البيت الأبيض بتاريخ 20 الجاري. وللتعبير عن اهتمامه بتحقيق الحل المنشود للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي يعد الرئيس بوش دعوة سيرسلها البيت الأبيض إلى محمود عباس على عنوانه البريدي ص.ب: 452 رام الله... فلسطين المحتلة
العدد 258 - الأربعاء 21 مايو 2003م الموافق 19 ربيع الاول 1424هـ