منذ احتلال العراق، تحاول الولايات المتحدة، ترميم علاقاتها مع الدول المعارضة للحرب أو تلك التي تضررت بسبب مخالفة واشنطن للشرعية الدولية.
منذ الاحتلال يحاول البيت الأبيض ترتيب علاقاته من دون أن يتراجع عن مواقفه التي تذرع بها للانقضاض على دولة محاصرة منذ أكثر من 12 سنة، الأمر الذي جعل بعض الدول تتردد في تغيير موقفها خوفا من أن تتحوّل مسألة العراق إلى «سابقة» تكررها واشنطن تلبية لضغوط داخلية تمارسها «مافيات» النفط وشركات الطاقة ومؤسسات التصنيع العسكرية.
وعلى رغم التجاذب الحاصل بين الولايات المتحدة ودول الضد نجحت واشنطن في تحقيق سلسلة اختراقات محدودة مستفيدة من نقطتين: الفوز العسكري السهل وعزلة النظام الصدامي الداخلية. فالفوز السريع أعطى قوة معنوية لمجموعة الأشرار الحاكمة في «البنتاغون» وانكشاف النظام العراقي، واكتشاف عشرات المقابر الجماعية أسهم في تعطيل تطوير الاعتراض الدولي والممانعة العربية لموضوع احتلال دولة كبرى لدولة صغرى وفرض نظام الانتداب عليها.
... الآن وبعد مرور خمسة أسابيع على سقوط تكريت (آخر مدينة عراقية ومسقط صدام حسين) تبدو النجاحات الأميركية السياسية محدودة، وهي على أهميتها لم تحقق الهدف الأساسي وهو تحويل الاحتلال إلى أمر شرعي يحظى بالتأييد الدولي القانوني والسياسي. فرنسا تراجعت، ألمانيا تراجعت، وروسيا تراجعت، وكذلك الصين... إلا ان محصلة المجموع العام لم تصل إلى نقطة تعطي أميركا حرية الحركة والتصرف كما تريد في تلك المساحة المحتلة. فالاحتلال حتى الآن مجرد أمر واقع فرضته القوة العسكرية إلاّ انه يحتاج إلى الكثير ليتحول إلى أمر شرعي تقرّه المواثيق الدولية واتفاقات جنيف وقرارات الأمم المتحدة.
الأمم المتحدة مثلا تراجعت عن مواقفها السابقة إلا ان تراجعها تمت تغطيته قانونيا بأسباب إنسانية وليست سياسية. ومجلس الأمن الذي وافقت دوله على رفع العقوبات وتعديل قرارات سابقة تتعلق بالمساعدات و«النفط مقابل الغذاء» إلا ان دول المجلس حرصت على فصل العوامل الإنسانية عن العناصر القانونية. فالتجاوب الذي حصل بين دول المجلس والولايات المتحدة تم في دائرة العمل على تخفيف معاناة الشعب العراقي حتى لا تظهر دول الضد وكأنها تؤيد النظام السابق وتريد معاقبة شعب لا ناقة له ولا جمل من كل ما ناله من سيناريوهات حروب دفع ثمنها على عقدين من الزمن.
تركيز الولايات المتحدة على الجوانب الإنسانية نقطة ضعف دول الضد وهو المدخل الدولي الذي تحاول واشنطن النفاذ منه لتحقيق بعض المكاسب السياسية وإعطاء شرعية قانونية للاحتلال. والتركيز المذكور يمكن أن تطوره واشنطن لتعميمه على مختلف الجوانب والجهات مستفيدة من اضطرار الدول العربية ودول الجوار إلى رؤية العراق يستعيد عافيته مجددا ليحتل موقعه الطبيعي في الأطر والمؤسسات الإقليمية والدولية.
وليس مستبعدا أن نجد الولايات المتحدة تتحرك بعد أسابيع على مستويات مختلفة لترميم علاقاتها مع الدول العربية من خلال العمل على الساحات العربية من مداخل متعددة. والمداخل المرجحة للتحرك الأميركي يمكن رصدها من خلال مراقبة البوابتين الخليجية والفلسطينية.
خليجيا يمكن أن تلجأ واشنطن إلى بعث رسائل تطمين للدول المعنية والمتخوفة من انفلات الفوضى العراقية بالعمل على تحقيق بعض الانفراج الداخلي وتشجيع الأطراف الفاعلة في الساحة على تشكيل حكومة وطنية متوازنة تتحمل مسئولياتها أمام الشعب العراقي الذي بدأ يضغط في السياسة والشارع لإخراج القوات الأميركية من البلاد.
وفلسطينيا يمكن أن يلجأ البيت الأبيض إلى استعجال وضع آلية لتطبيق خطة «خريطة الطريق» من دون إثارة غضب رئيس الحكومة الإسرائيلي ارييل شارون الذي يجد نفسه في وضع الأقوى في وقت يستعد فيه الرئيس الأميركي إلى خوض معركة الرئاسة في دورة ثانية تعقد بعد 18 شهرا.
البوابتان الخليجية والفلسطينية تمران إلى المنطقة العربية من مدخلين. الأول: دولي. والثاني: عراقي. ومن دونهما يصعب أن نجد الولايات المتحدة في موقف مريح. فالمدخل الدولي يسهم في إعادة ربط الاحتلال الأميركي بالاحتلال الإسرائيلي، وانسحاب الأول من العراق، ولو بحدود جزئية يزيد الضغط على شارون للانسحاب الجزئي من الأراضي المحتلة. والمدخل العراقي يسهم بدوره في إعادة الربط بين نجاح القوى السياسية الفاعلة في تشكيل حكومة وطنية متوازنة ويشجع الدول الكبرى على الدفع نحو تشكيل حكومة فلسطينية وطنية ومتوازنة تعمل على تأسيس «استقلال» معقول عن السيطرة الصهيونية.
أمام الإدارة الأميركية «ورشة» ترميم واسعة لتتفادى إمكانات انجرار المنطقة كلها نحو المزيد من اللااستقرار بسبب امتداد الفوضى العراقية وإصرار شارون على خرق كل القرارات والمبادرات التي اتفقت عليها الدول الكبرى في مجلس الأمن والقوى الفاعلة دوليا من خلال ما أطلق عليه «اللجنة الرباعية». وأميركا في هذا المعنى تتحمل مسئولية كبرى سواء تلك الحوادث الأمنية التي وقعت وتقع في أكثر من مكان من المحيط إلى الخليج... أو حتى تلك التي تكرر حدوثها في فلسطين نتيجة الانحياز المطلق للسياسة الشارونية.
أميركا تتحمل المسئولية وعلى عاتقها تقع كل المهمات المتعلقة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة ترميم العلاقات الدولية والعربية والعراقية والفلسطينية التي انهارت حين ضربت واشنطن الأعراف والمواثيق والاتفاقات بالحائط بسبب استراتيجيتها الهجومية... والطائشة من أفغانستان إلى العراق ومرورا بفلسطين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 258 - الأربعاء 21 مايو 2003م الموافق 19 ربيع الاول 1424هـ