يهدد التلوث الناشئ عن وسائل النقل صحة سكان المدن. وعلى مستوى الكرة الأرضية يتسبب التلوث في تسخين الجو. ثمة حال ملحة اليوم ينكب عليها الباحثون الفرنسيون لإيجاد بدائل للنقل البري للبضائع وكذلك لاستخدام طرق تسيير للمركبات غير ملوثة للهواء.
أقدم فصل الصيف والجو حار. وترقد في سماء المدن غيوم سميكة ويسبب الهواء تهيج العيون والتهاب الشعب الهوائية، فتختنق المدن بالتلوث الذي تسببه السيارات والحافلات والشاحنات. وبينما يقل انبعاث الملوثات الهوائية في جميع المجالات النشطة، فإنه مازال مستمرا في الزيادة في مجال وسائل النقل.
وبدأنا نتعرف على الآثار التي يتركها تلوث الهواء على صحتنا، مشكلات تنفسية عند الضعفاء، المساهمة في زيادة الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان... وطبقا للجمعية الفرنسية للصحة العامة يحدث الموت المبكر بعدة أسابيع في حياة أكثر من 200 شخص كل عام بسبب جزيئات تفرزها عوادم السيارات، وهي من ضمن الملوثات الكثيرة المنبعثة. ولهذا السبب، تم تجهيز المدن الفرنسية، منذ صدور قانون الهواء في 30 ديسمبر/ كانون الأول 1996، بشبكة لقياس درجة تلوث الهواء وإنذار الأهالي في حال تعدي الدرجة عتبات معينة.
أما صوت المركبات، فهو أيضا مسألة متعلقة بالصحة العامة ومصدر إزعاج كبير يشعر به الأهالي. طبعا هناك قواعد تتسم بالصرامة المتزايدة تحد من إصدار أصوات المركبات. ولكن الإزعاج الأكبر والمضر بالصحة يأتي من خطوط الحديد وضوضاء الطرق القريبة من أماكن السكن.
أما على صعيد الكرة الأرضية فإن مشكلة وسائل النقل وأثرها السلبي على البيئة مقلقة هي أيضا، فباحتراق الوقود ينبعث ثاني اكسيد الكربون وهو الغاز الرئيسي المسئول عن ازدياد سخونة الهواء وعدم الاستقرار الجوي الحالي. والواقع أن وسائل النقل تستهلك أكثر من ثلثي المنتجات النفطية وأكثر من ربع مقدار الطاقة المستهلكة داخل فرنسا. وكلها نسب تتزايد بصفة منتظمة.
ولخفض نسبة التلوث واستهلاك الوقود، المطلوب ليس تقليل عدد المركبات ولكن تسييرها بطريقة أفضل. لأن النقل ببساطة هو من صميم حياتنا ومجتمعنا. فهو أساسي لديناميكية الشركات ويشكل في فرنسا 15 في المئة من إجمالي الناتج القومي كما يعمل في هذا القطاع 3 ملايين من العاملين في وظائف مباشرة وغير مباشرة. بدءا بنقل البضائع، الذي يستهلك أكثر من نصف إجمالي الوقود الذي يتم إنتاجه. وطبقا للتوقعات، سيزيد استهلاك الوقود فيما بين أعوام 2000 و2010 بنسبة 30 في المئة، وخصوصا على الطرق السريعة التي تمر بها حاليا ثلاثة أرباع البضائع الأوروبية.
ويجدر تشجيع استخدام النقل النهري وسكك الحديد لإرسال الشحنة لمسافات طويلة، بما انها تعتبر أقل تلويثا للبيئة، وهذا ما طالب به منذ سنوات علماء البيئة ونادت به الجماعة الأوروبية، الداعية دائما إلى وضع «استراتيجية دائمة للنقل» تميل إلى استخدام وسائل النقل التي «تحترم البيئة».
إعادة تخطيط
المساحات الحضرية
مع النقل المشترك، تستطيع الشاحنة تأمين المواصلات المحلية لكونتينر يتم شحنه على عربة قطاع واحدة وتسليمه في الطرف الآخر من خط الحديد. ثم إذا كان مجرد تسليم شحنات البضائع في المناطق الحضرية يحرق 50 في المئة من الوقود المستهلك ويبعث في الجو 70 في المئة من الجزيئات الملوثة، فيجب على البلديات أن تقيم مراكز توزيع في المدن مثلما هو الحال في آراس أو لاروشيل فتتحكم منطقة الشحن هذه في تموين وسط المدينة وتعطي أفضل الوسائل لتسليم البضائع، بما يوفر المزيد من عمليات النقل وحرق وقود جديد.
وهناك مبادرة تسير على خطى قانون الهواء لسنة 1996. فلتحسين نوعية الهواء، تم وضع خطة للانتقالات الداخلية لكل المدن التي يتعدى سكانها 100 ألف نسمة. وعرضت هذه الخطة في استفتاء عام وكان الهدف منها التحكم في الانتقالات بصورة أفضل لتقليل استخدام السيارات، وذلك بتطوير وسائل النقل الجماعية وتمهيد الطرق للمشاة وراكبي الدراجات.
إلا أنه مازالت أمام السيارات والحافلات والشاحنات أيام مجد لم تنته بعد. ولحسن الحظ، تتزايد القوانين التي تحد من انتشار الملوثات والتي فرضها الاتحاد الأوروبي وتتسم بالصرامة المتزايدة، فقد تم تقسيمها إلى عشرين جزءا في عشرين سنة. والنتيجة هي تعميم استخدام (الفلتر) في المركبات التي تسير بالبنزين والحقن المباشر في تلك التي تسير بالديزل، ما يحسن عمليات الاحتراق الداخلي ومن ثم يحد من انبعاث الغازات الملوثة.
وينشأ عن هذه التحولات ردود فعل في بعض الأحيان من دون نكبات. فيعترف الأستاذ بالمدرسة المركزية في مدينة ليون البروفيسور فيليب آركيس، بأن «محركات الديزل تبعث جزيئات أقل بكثير مما كانت عليه في السابق. لكن هذه الجزيئات أصغر مئة مرة مما كانت عليه في الماضي وهي تدخل في الرئتين بشكل أسرع وأعمق وتصل إلى الدم ويمكن لها في النهاية أن تسد الشرايين».
والصعوبة الأخرى هي الاستمرار في استخدام المركبات القديمة وعدم الميل إلى التجديد، فطبقا لوكالة البيئة والتحكم في الطاقة فإن نسبة 20 في المئة من المركبات مسئولة وحدها عن 80 في المئة من التلوث في فرنسا. إلا أن الكشف التقني الدوري الإجباري منذ العام 1992 والذي يتم إجراؤه كل عامين على السيارات التي مر على صنعها أكثر من أربع سنوات، قد سمح بالتحكم والحد من انتشار سمومها.
طريق الوقود «الأخضر»
هذا ما تؤدي إليه بدائل الوقود مثل الغاز الطبيعي الذي يشكل غاز الميثان 80 في المئة منه. ففي عشرين مدينة فرنسية تعمل أكثر من 700 حافلة بالغاز الطبيعي وتتمتع في الوقت ذاته بتسهيلات ضريبية، مثله مثل الغاز السائل للنفط، المتوافر في أكثر من 1800 محطة خدمة والذي تستخدمه حوالي 200 ألف سيارة مجهزة. يوجد أيضا الأكوازول الذي طرحته شركة توتال فينا إلف وهو مزيج من الجازولين مضاف إليه من 10 إلى 15 في المئة ماء ويستخدم في الشاحنات والحافلات في حوالي عشر مدن.
ويضاف الدايستر، وهو أحد المواد الصديقة للبيئة، بنسبة 5 في المئة إلى وقود محطات الخدمة. وبالإضافة إلى ذلك، تستخدم حوالي 4000 حافلة الدايستر بنسبة خلط 30 في المئة مع الجازولين، من دون الحاجة إلى تعديلات ميكانيكية. ويتم تحضير الدايستر من نباتي الكولزا وعباد الشمس اللذين يزرعان على أرض بور مهملة، ومن أهم فوائده أنه لا يبعث ثاني اكسيد الكربون. ومثله مثل الـ «إتيبي» وهو أحد أنواع الكحول التي تستخرج من البنجر والقمح وتخلط بالوقود، ولكنها مازالت في طور استخدامها الأولي وتنتظر التوسع في تطبيقها. وتشكل هذه المواد طاقات طبيعية قابلة للتجديد وتقوم الجهات المعنية في فرنسا وأوروبا بتشجيع تعميمها بشكل أكبر.
ولماذا لا نتحرر من محرك الاحتراق الداخلي الذي مر على اختراعه أكثر من مئة عام؟ إن ميزة السيارات الكهربائية تكمن في عدم تلويثها الهواء. عموما، يجب في كل الأحوال إنتاج الكهرباء، التي تتسبب هي الأخرى في بعض التلوث، واستبدال بطاريات الشحن بصفة دورية. فضلا عن ذلك فان البطاريات باهظة التكاليف وينحصر استعمالها داخل المدن بسبب مداها الأقصى الحالي (100 إلى 200 كم). وتسير على الطرق الفرنسية حوالي 7 آلاف سيارة كهربائية، نصفها تابع للإدارات والخدمات العامة. وما ان تطرح شركتا رينو وبيجو مركباتها المزدوجة المحركات (محرك صغير حراري يدعم المحرك الكهربائي أثناء السير أو يقوم بشحن البطارية عندما تضعف)، سيتم الدفع بهذه التقنية إلى الأمام.
وعلى المدى الأطول، يحلم جميع صانعي السيارات بتسييرها بالهيدروجين وهو عنصر متوافر دائما في المياه وفي الهيدروكاربور، لأنه عند احتراقه يبعث فقط الماء. لذلك يمكن استخدامه وقودا للمحركات أو لإنتاج الكهرباء بمساعدة البطاريات القابلة للاحتراق. إلا أنه مازالت هناك مشكلة تكمن في أن الهيدروجين غاز باهظ الكلفة الإنتاجية وصعب التخزين لما يحتاج إليه من ضغط عال. فإذا استطاعت شركتا رينو أو بيجو تصنيع نماذج سيارات مجهزة ببطاريات قابلة للاحتراق، فإن تقنية التعميم لاتزال معقدة وباهظة التكاليف.
ويرى فيليب آركاس أنه «عندما تصبح البطاريات أكثر بساطة من المحركات الحرارية، التي ستتعقد تقنيتها، سيكون تغيير التكنولوجيا المستخدمة طبيعيا»، ولكن، وكما يضيف: «سيحدث هذا خلال ثلاثين أو أربعين سنة».
ومن الآن حتى ذلك التاريخ، فإننا نتحمل جميعا مسئولية مكافحة تلوث الهواء وارتفاع درجة الحرارة: علينا أن نفضل، عندما تكون الفرصة متاحة، السير على الأقدام أو ركوب الدراجات أو المواصلات الجماعية، فهذه مسئولية مدنية. وهذا الاختيار يكلف أقل بكثير من ركوب السيارات!
لابل فرانس - بالاتفاق مع السفارة الفرنسيه