اشتباكات مخيم عين الحلوة في صيدا فتحت مجددا ملف الوجود الفلسطيني في لبنان. الاشتباكات وقعت أثناء تشييع أحد القتلى بين حركة «فتح» و«الإسلاميين» فسقط عشرات القتلى والجرحى. وطرح من جديد معنى استمرار «الجزر الأمنية» في الساحة اللبنانية في وقت تحاول الولايات المتحدة فيه شطب القضية الفلسطينية من قاموس الصراع العربي ضد «إسرائيل» وتثبيت الدولة العبرية قائدة قاطرة الدول العربية في منطقة «الشرق الأوسط».
الملف الفلسطيني في لبنان من أعقد القضايا العالقة فهو يختصر المأساة ويختزل سلسلة الحلول الظالمة ضد هذا الشعب المغلوب على أمره في لبنان وغيره. والفارق بين لبنان وغيره ان الملف الفلسطيني فيه يطرح علنا ومن دون غطاء يغلف الحقائق بالسرية وكتم المعلومات. واشتباكات عين الحلوة (أكبر مخيمات لبنان) تكشف جوانب كثيرة عن ذلك الملف الذي يراد من خلال فتحه مجددا إعادة النظر في نقاط ساخنة تم تبريدها في سنوات سابقة. وأهم تلك النقاط التوطين أو التجنيس... وربما إعادة التشريد في حال أغلق ملف العودة نهائيا.
واشتباكات عين الحلوة هي عنوان المرحلة المقبلة فهي وقعت بين ميليشيات «الجيل الثالث» من الشعب الفلسطيني وهو الجيل الذي ولد في لبنان وعاش ضمن جدران مخيمات مؤقتة، وهي لاتزال «غريبة» و«مؤقتة» على رغم مرور قرابة 55 سنة على تأسيسها.
انها مأساة ثانية بعد النكبة الأولى التي وقعت في العام 1948. ومنذ الرحيل الأول من فلسطين إلى دول الجوار عاش الفلسطيني في لبنان في مخيمات أقيمت بسرعة في مختلف المناطق وانتشرت وتوزعت من الجنوب في صور وصيدا إلى بيروت (صبرا وشاتيلا ومار الياس) إلى المتن (الدكوانة والضبية) وطرابلس في الشمال (مخيم البداوي) وبعلبك (مخيم الجليل) وغيرها من مخيمات صغيرة وفقيرة عاشت على هامش المجتمع اللبناني.
كان الفلسطيني (الجيل الأول) هو الانسان «الغريب والمؤقت». فوجوده ظرفي محدود في الزمان والمكان وهويته غريبة ومدار نقاش وخلاف. والنتيجة كانت استمرار «الغريب» في هويته في «مكانه» يحق له العمل في قطاعات الزراعة والصناعة كعامل لا ضمانات وحقوق اجتماعية له وينال أجرة منخفضة عن زميله اللبناني.
«الغريب المؤقت» بقي في مكانه وحرم من حق العمل السياسي والنقابي ومنع من العمل في 72 مهنة حتى لا ينافس زميله اللبناني في قطاعات الحرف والاختصاص. واستمر «الغريب المؤقت» يتحرك ثابتا في مكانه ولا يستطيع التقدم اجتماعيا حتى لا يخرق التراتب المهني والحرفي ولا يكسر التوازن الديموغرافي (السكاني ـ الطائفي).
انتظر الجيل الأول لحظات العودة ومرت السنوات من العام 1947 (التقسيم) إلى العام 1967 (هزيمة يونيو/حزيران) فانهارت الأحلام بانهيار الجيوش العربية على جبهات حدود فلسطين.
إلاّ ان الثبات في المكان (المخيم) رافقته سلسلة تحولات في النمو السكاني والتحولات السياسية. فبعد جيل الانتظار جاء الجيل الثاني (1967 - 1982) الذي انتقل من دائرة الاتكال على الأنظمة لإعادة حقوقه إلى دائرة الفعل السياسي والعمل على تشكيل وحدات عسكرية والقيام بعمليات فدائية على خطوط التماس مع دولة الاحتلال.
كان الجيل الأول يحلم بالعودة وينتظر تلك اللحظة التي تعيد وصل الذكريات الأولى بذكريات الرحيل والانتقال من مكان إلى مكان. لذلك طغت عليه أفكار الثأر والانتقام وعاش لحظات نمو المشاعر القومية (حركة القوميين العرب، حزب البعث، والحركة الناصرية) إلاّ ان الهزيمة (1967) فتحت الباب أمام الجيل الثاني للدخول في عالم من الأفكار الجديدة فهناك من اتجه نحو الإسلام باعتباره عقيدة جهادية وهناك من ذهب إلى الماركسية مستلهما تجاربها في الصين وفيتنام، باعتبارها أساسا حديثا للكفاح ضد الاستعمار.
الجيل الثاني في لبنان شهد في زمانه لحظة الخروج من المكان الثابت (المخيم) إلى عالم من العلاقات المركبة من أحزاب وطوائف ومذاهب لبنانية فكان عليه قبول تلك الصيغ المحلية في وقت شهدت المنطقة حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي كادت أن تفتح باب العودة، ولكن المفاوضات وتدخل الولايات المتحدة أحبط الأمل وأعاد عقارب الزمن إلى لحظات جديدة من الانتظار.
مشكلة الجيل الثاني تشبه مشكلة الجيل الأول؛ فهو الفلسطيني (الغريب المؤقت في لبنان)، وتختلف أيضا في معناها السياسي فهو الانسان الذي يريد مكانه ويتطور فيه وينطلق منه لتحقيق الحلم (العودة). فكان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 فعاد الفلسطيني إلى المكان الثابت (المخيم) وخرجت قياداته وقواته بحرا وتوزعت آنذاك على دول عربية.
ومنذ العام 1982 إلى الآن ولد «الجيل الثالث» وهو الجيل الذي يسمع بفلسطين ولا يعرف منها سوى ذكريات نقلها الآباء عن الأجداد.
إلاّ ان «الجيل الثالث» لايزال يحلم وينتظر وهو يعيش لحظات «الجيل الأول» من دون انقطاع. ولكنه، وهنا المفارقة، يعتبر وفق المقاييس اللبنانية (القوانين والدستور) هو ذلك «الغريب والمؤقت». فالهوية حتى الآن مجهولة، والمصير غير معروف.
منذ 55 سنة حصلت الكثير من التحولات السياسية في صفوف أجيال الشعب الفلسطيني في لبنان فهو القومي، والماركسي، والإسلامي إلاّ ان تلك التحولات لم تنجح في إلغاء الثابت الاجتماعي في المكان (المخيم). فالفلسطيني «الغريب والمؤقت» يعني المخيم الذي ينتظر لحظة العودة بعد مرور الأيام والسنوات ورحيل الجيل الأول وعجز الجيل الثاني ونمو الجيل الثالث الذي احترف الصمت والقعود... والانتظار.
اشتباكات عين الحلوة هي معارك مسلحة جرت بين ميليشيات فلسطينية تنتمي إلى «الجيل الثالث» الذي ينتظر العودة بينما الحلم يرحل بعيدا وهو ثابت في مكانه (المخيم)
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 257 - الثلثاء 20 مايو 2003م الموافق 18 ربيع الاول 1424هـ