لا تخلو الحياة من منغصات ومشكلات، ولا يدب خلاف إلا لتقويم انحرافات وأخطاء حادت عن طريقها الصحيح، فأينما ينبعث خلاف أو ينشأ عدم توازن مهما كان شكله أو حجمه فلابد من حسم ذلك الخلاف وبما يتفق ورضا طرفيه نسبيا، وإلا اتسعت دائرة العنف وآلت إلى نتائج كارثية، قتل وتدمير وحرق وتهجير.
المولى عز وجل خلق الطبيعة والحيوان والإنسان، وجعل الطبيعة صامتة، والحيوان بإدراك محدود التفكير، والإنسان بكامل العقل والإدراك، وجعل لكل منهم منهجا يختلف عن الآخر في حل المشكلات. فالطبيعة لها نزعة تدميرية في إعادة التوازنات، والطبيعة لا تتفاهم مع أحد ولا مجال للنقاش معها، بل تحسم الخلل بالبراكين والسيول والفيضانات والرياح العاتية لتعيد التوازن المفقود الذي يؤدي في النهاية إلى كوارث بالغة التدمير أينما حلت. أما الحيوانات فبحكم تفكيرها المحدود، فهي بالتالي لا يمكن إلا أن تكون لها طريقة محدودة في حسم خلافاتها وهي طريقة التناطح أو التشاجر بين طرفي المشكلة لإنهاء الخلاف.
أما الإنسان الذي يتمتع بالعقل الرزين والخيال الواسع والرؤية الحسنة فمن المفترض أن يُرجح منطق العقل وتكون له طريقة مثلى في معالجة الأمور أفضل من الطبيعة الجامدة أو الحيوان ذي الإدراك الضعيف وذلك لما ميزه المولى عز وجل بحواسه الخمس التي تمكنه من أن يقارن ويميز بين الأمور بما يحقق العدالة للجميع على هذه الأرض الرحبة والثرية بمواردها الطبيعية. إلا أن الإنسان ـ مع الأسف الشديد ـ حينما يمتلك القوة يُجمد، لغرض في نفسه، العقل على رغم رحابة الأرض وكفاية ما عليها وما بها من خيرات تكفل الحياة الكريمة لجميع البشر، ليطلق هوى النفس لاختلاق المشكلات ويقتتل دونها لاكتناز الذهب والفضة والخيل المسوّمة والقناطير المقنطرة ويتصرف بمزاجية في جمع المال كقارون أو استعباد الناس كفرعون أو الاستحواذ على كل شيء كالذي كانت له تسع وتسعون نعجة (زوجة) وكان أخوه لديه نعجة واحدة (زوجة) فطلب منه أن يتخلى له عن زوجته الوحيدة ليضمها إلى زوجاته التسع والتسعين وعزه بالكلام (غلبه) فكان له ما أراد. هكذا هم البشر لا يكتفون بما لديهم أو حولهم بل يريدون أن يستحوذوا على كل شيء ويحاولون أن يكتسبوه بأية طريقة كانت، ويتدرجون في محاولاتهم للحصول عليه إما بالإقناع وإما بالتزوير وإما بالكذب وإما بالقوة إذا لزم الأمر، غير عابئين بما يجري للآخرين من دمار أو نار تحرقهم.
هذه هي نزعة البشر، وإذا قسنا نزعة الجشع لدى ذلك الشخص صاحب التسع والتسعين نعجة، الذي طالب بالمزيد فماذا عسى أن تكون نزعة الشر لدى عصابات جمّدت العقل ولوت اللسان بالكذب وأطلقت العنان لقوتها العسكرية التدميرية الهائلة لتحقيق ما تريد؟ لا شك أنها كارثة أخلاقية وضمور وانحدار للقيمة البشرية إلى أقل من المرتبة الحيوانية. فهل يحق لأميركا وبريطانيا وإسبانيا أن تلغي المنطق والعقل وتُركن احترام المجتمع الدولي جانبا وتُحكم منطق الآلة العسكرية؟
إنها بحق لهي الجريمة الكبرى والسقوط الكامل للقيم البشرية وانتقاص لحقوق الآخرين وبالذات المسلمين والعرب، وعليه فإن لم تتحرك جامعة الدول العربية في دفع المجتمع الدولي إلى محاكمة ومعاقبة مجرمي الحرب على فعلتهم النكراء فستحل اللعنة علينا جميعا، وستبتر من عالمنا المذبوح أطراف أخرى غير فلسطين والعراق
إقرأ أيضا لـ "علي محمد جبر المسلم"العدد 256 - الإثنين 19 مايو 2003م الموافق 17 ربيع الاول 1424هـ