قبل سنوات كانت مجموعة من شباب البحرين في رحلة للعمرة، وأثناء الطواف بالكعبة المشرفة التصق بهم شاب مصري في الثلاثينات من عمره، بعد أن ترك الجماعة التي يطوف معها وأكمل الطواف معهم. بعد الطواف تبعهم ليسألهم عن الدعاء الذي كان يتلوه أحد الشباب، فقيل له انه من الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين (ع). بعد ذلك صحبهم إلى الفندق، وهناك عرفوا أنه خريج جامعي، مهندس يبحث عن عمل، حرمه النظام في بلده - حسبما قال - من العمل لأنه ملتحٍ.
نموذج من الفكر الملوّث
وبدأ نقاش هادئ في الفندق عن القضايا الإسلامية العامة المتفق عليها، على طريقة أهل البحرين السمحة في ابتغاء الألفة والوحدة، أما صاحبنا فابتدأ بطرح «إشكالٍ» على الدعاء الذي جاء فيه: «يا موجودا في كل مكان»، بقوله: «هل الله موجود في دورات المياه؟»، ولم يكن يخطر ببالهم مثل هذه القفزة «الفكرية» العجيبة من مخاطبة رب العالمين أمام الكعبة المشرفة إلى الحمّامات! ما المناسبة أصلا؟ أم انه فكر مشرّب بالتجسيد الذي يتصور الله -تعالى شأنه- على طريقة الاسرائيليين، رجلا عجوزا أبيض اللحية ينزل على حمار من السماء السابعة!
وبعد أن طرح صاحبنا إشكاله «التجسيدي»، جلس خطيبا من فوق لا محاورا، وسرعان ما انخرط في سلسلة من الانتقادات لم يوفّر فيها أحدا من العالمين: الكل باطل وحضرته ومن على شاكلته على صواب. وكلّما طرحوا عليه اسما من الكتّاب المعروفين من باب الرغبة في التقريب انهال عليه ضربا باليمين! فالشيخ الشعراوي متصوف ومداهن في دينه! والشيخ القرضاوي بتاع البترول! وقطب والشيخ الغزالي... إلخ. هذه الأسماء اللامعة في سماء الفكر الإسلامي، التي أثرت الساحة بإنتاجاتها وفكرها، يجلّ فيهم المرء العلم والعمل والحرص على مصلحة الأمة. لكل منهم تاريخ من النضال والكفاح، كل كان يعمل على شاكلته وبحسب طريقته ومنهجه... لكن العقلية الضيقة لا ترى في الوجود من يستحق الوجود غيرها، وهي في ذلك نسخة أخرى من عقلية بوش وصدام وكل طغاة الأرض: «من لم يكن معنا فهو ضدنا»... تشابهت قلوبهم وعقولهم. الأول دمّر العراق باسم الله والصليب، وهذا وأمثاله باسم الإسلام. كل منهما نصب نفسه متحدثا باسم السماء، لم يخوّلهم أحد وليسوا مؤهلين ذاتا للقيام بهذا الدور.
وعلى ذات النهج الأخرق سلك آخرون، لو خُيّر أحدنا، نحن المواطنين الذين نعرف قدرنا وحجمنا الحقيقي، لما اخترناهم ممثلين لنا في أصغر نادٍ رياضي، فكيف يفرضون علينا أنفسهم ليتحدثوا باسم الدين والوطن وأهل السنة والجماعة والقبائل العربية والمرابطين على الثغور... بل لم يستحوا أن ينصبوا أنفسهم ناطقا رسميا باسم الله أيضا، فيختارون من أحبوا إلى الجنة ومن لم يعجبهم رموا به في النار!
عقلية الصحارى والقفار!
الكتّاب والعلماء الذين نحمل لهم كل ود واحترام ونحرص على قراءتهم ومتابعتهم على الدوام، هم الأكثر معاناة من تسلّط عقلية «الربع الخالي»، فالشيخ الغزالي، صاحب تلك المؤلفات الفكرية القيّمة، عندما زار الإمارات والجزائر بداية الثمانينات اصطدم بسؤال واحد عن حكم الخمر إذا تحوّل إلى خلّ، حتى خيّل للرجل أن هناك مؤامرة تتبعه هنا وهناك، أو مؤامرة تجرى لتسطيح الوعي عند جمهور المسلمين. وتحدّث ذات مرة عن الموسيقى وقال انه إذا كنا نخاطب الغربيين اليوم فهل نبدأهم بالحديث عن تحريم الموسيقى، وهي التي تجري في عروقهم ويسمعونها كل يوم؟ ووصف مثل هذه العقليات المتخبطة التي لا تفهم كيف ترتب أولوياتها بـ «عقلية الصحراء».
وفيما نال أهل البحرين من انتقادات ذلك المهندس العاطل المترفع، هو انهم لا يطيلون لحاهم: «لماذا كل لحاكم قصيرة، وأكثر ثيابكم بنطلونات وقمصان؟»... والمفروض أن تمسك لحيتك بقبضتك وإلا فأنت من المغضوب عليهم. وطبعا لم تفلح محاولات إقناعه بأن مظهر هؤلاء (وهم عينة نموذجية من شباب البحرين المتدين الحريص على تعاليم دينه) أو لباسهم لا يخرجهم من الإسلام ولا يدخلهم في زمرة الضالين.
وبعد أن تمادى صاحبنا وحاول الخوض في قضايا التاريخ الإسلامي الشائكة والافتاء فيه برأيه، اعتمادا على كتب رجل دين واحد عاش قبل سبعة قرون، قلت له باختصار انهاء للجدل العقيم: «هناك كتاب شرحه وعلّق عليه الإمام الأكبر الشيخ محمد عبده (رحمه الله) قبل مئة عام، اسمه نهج البلاغة، وهو الكتاب الوحيد الذي يجمع خطب أحد الخلفاء الراشدين في العهد الإسلامي الأول، أتمنى ان تقرأه إذا عدت إلى مصر، على الأقل ستعرف آراء أحد الصحابة في أصحابه الكرام».
فنّ زراعة الأحقاد
ما أحوجنا نحن المسلمين إلى معرفة كيف نتعاطى مع قضايانا بروح التسامح وتقبل الآخر، فليس كل من اختلف معنا سيدخل جهنم وبئس المصير! هذه النظرة الشوفينية الأنانية المقيتة التي لا ترى غير وجهها «البهي الجميل»، ليس عند المقارنة مع أتباع الأديان الأخرى بل حتى مع المنتمين إلى طوائف المسلمين الأخرى. مع ان مباديء دين محمد (ص) تحثنا على احترام الانسان من حيث هو إنسان: «إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، ولكن الموتورين الطائفيين لا تحركهم إلا الأحقاد الموروثة من هند بنت عتبة.
أحد الكتاب نشر مقالا قد يدخل في خانة «أدب الاعترافات» الجريء، يصوّر فيه رحلته إلى دولة أوروبية، وجلس يقرأ في كتاب عن «عذاب القبر»، فيما جلس صاحبه يقرأ عن مشكلات الطرق والهندسة... إلخ، وهو طول الطريق يغلي غيظا عليه، ويزداد نفورا منه، من دون سبب يدعو إلى الكراهية. ترى لو تعلمنا كيف نحسن صحبة الآخرين ألن يدخل الناس في دين الله بعد هذا النفور؟
الجنة لكم وحدكم؟!
في التاريخ الإسلامي الوسيط وردت قصة فيها عبرة كبرى، تعكس التطاحن الداخلي للمسلمين وما يؤدي إليه من فظائع واهوال، إذ ظفر أحد المتحاربين بالطرف الآخر فأحضر القائد المنتصر قادة وعلماء ومشايخ الطرف المهزوم الذين كانوا يكفّرون المسلمين، فأخذ يوبّخهم ويقرّعهم حتى انتهى إلى القول: «ان الله أعدّ جنة عرضها كعرض السماوات والأرض... هل تعتقدون انه خلقها لكم وحدكم؟»، ثم أمر جنوده فانقضوا عليهم وقتلوهم أجمعين.
قد تقولون: مأساة قديمة تنقلها من التاريخ، وما أكثر المآسي التي اعتاد عليها المسلمون في فلسطين ولبنان والعراق وكشمير والبوسنة و... فلم يعودوا يشعرون بأمثالها، نعم... ولكن المأساة الأكبر أن يستمر التفكير بهذه الطريقة لدى ثلة من الناس، تنشر هلوساتها كل يوم، فهو وحده من «حماة الثغور وجند الإسلام» وسواهم تجزيئيون، منافقون، حتى اضطره الحقد والضغينة إلى الاستماتة في الدفاع عن حجّاج العصر صدام العراق. على ان ما سيبقى لمثل هؤلاء المأجورين في ذاكرة الشعوب ذلك المثل السيىء في التاريخ، وخصوصا ان ماضيهم لم يسجّل لهم موقفا مشرّفا مع قضايا الشعب، ولما تخلّص الناس من أغلال «قانون أمن الدولة» إذا به يعود ليبشر بعودته من جديد.
المدفع المجنون!
كأنه يعجبه ما حدث من مجازر في أفغانستان وسواها من البلاد المبتلاة بأمراض الصحراء والبداوة التي لم يهذّب روحها الإسلام ولم يتغلغل إلى تلافيف حياتها الاجتماعية ويرقق من حياتها النفسية، فكان من أسموهم «قادة الجهاد» يقصفون كابول وسواها بالصواريخ دون أن ترف لهم عين.
هل يريد أهل البحرين الذين اعتادوا التعامل وفق السماحة والوداعة، أن يقتدوا بمن يرى الجنة مقصورة على أهله وأما بقية شعوب الأرض فمآلها حصب جهنم؟ هؤلاء مثل ذلك المهندس المترفع المنفوخ، كالعظم الذي يعترض الحلق فلا هو يهضم ولا يبلع، ومرده أن تقيئه الشعوب. فلا غرابة أن يصفه أحد المسئولين في الدولة وصفا بليغا مستمدا من اللغة العسكرية بأنه «مثل المدفع الدوّار، لا تدري أين ستكون طلقته القادمة»!
البحرين ميزتها الكبرى أنها تفتح ذراعيها للجميع ليعيشوا في واحة أمن وسلام، ومثل هذه الطروحات المشبوهة من شأنها أن تفجّر الوضع الاجتماعي وتثير الفتنة النائمة...كأنه لم يسمع الحديث الداعي إلى تركها نائمة. وواجبنا ان نذكّر الجميع، بمن فيهم المسئولين، بأن «الفتنة أشد من القتل»، كما يفترض أن ينصح من هم في موقع المسئولية والتوجيه، وخصوصا من علماء الدين من الطائفتين، فقدرنا أن نعيش على هذه الأرض الوادعة، وسيعيش عليها ابناؤنا وأحفادنا، فإذا دأبت هذه الفئة الشاذة في زرع بذور الفتنة والشقاق، فإن ضررها لن يقتصر على ما تسببه من جروح نفسية غائرة في نفس الجيل الحالي، وإنما ستمتد بأذرعها القميئة إلى حياة الأجيال القادمة، وستؤسس لثقافة تقوم على الكراهية والحقد الطائفي الذي سيتعذب الوطن طويلا لنتاجه المر كالعلقم.
أمامنا نماذج افغانستان طالبان، وعراق صدام، وجزائر العسكر، وفظائع البلقان... وحتى بيروت التي يدّعون انهم فقهاء في معرفة شئونها! نماذج صارخة، ينسون ان ما يقومون به من إثارة الإحن والأضغان والأحقاد، ينتهي إلى ما انتهت إليه تلك الأوطان
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 256 - الإثنين 19 مايو 2003م الموافق 17 ربيع الاول 1424هـ