العدد 256 - الإثنين 19 مايو 2003م الموافق 17 ربيع الاول 1424هـ

هل بدأت أميركا تراجع نفسها حقا؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

نيويورك...

راحت السكرة، فهل بدأت تعود الفكرة؟...

ربما يكون من السذاجة السياسية المفرطة أن تتصور أن أميركا بكل عظمة الامبراطورية وغطرسة قوتها، قد أفاقت سريعا من وهج الانتصار الكاسح الذي حققته جيوشها الغازية للعراق، أو أنها تمر الآن بمرحلة حساب للنفس، يحدد المكاسب والخسائر من هذه الحرب الأسهل ربما في التاريخ كله...

غير أن من الحماقة الفكرية أن ننقاد ـ مع غالبية الأميركيين ـ وراء هذا الوهج وبريقه الخاطف للأبصار، فثمة رماد كثير تحت النار الملتهبة، إن كانت نيران الصواريخ والقاذفات الرهيبة قد توقفت في العراق، فإن نور العقل بدأ يطل عبر الظلام الحالك، الذي تمكنت خلاله الآلة السياسية الإعلامية ـ الدعائية ـ الأميركية من إغراق الرأي العام الأميركي في متاهات التضليل وسط هالات الانتصار....

وبقدر السعادة الهائلة بالنصر العسكري الأسرع، الذي بدت خلاله الحرب لعبة من طرف واحد، بعد تهاوي نظام صدام السريع، بقدر الهاجس الذي يسكن قلوب وعقول بعض العقلاء في أميركا، خوفا على الحضارة الأميركية وقيمها «المثالية» من سرعة الانحدار نحو هاوية الاستعمار الكلاسيكي...

وربما كان المؤرخ والمفكر الشهير «بول كنيدي» هو أكثر الذين نبهوا الأمة الأميركية إلى خطورة الاندفاع وراء وهم الامبراطورية الجديدة، ومشروعاتها الكبرى للهيمنة على العالم، بعدما أغراها الانتصار العسكري الساحق خلال عامين تقريبا في أفغانستان ثم في العراق أخيرا...

وملخص ما صرح به بول كنيدي ـ الذي تلقى آراءه احتراما شديدا في الغرب عموما وفي أميركا خصوصا ـ أن المخاطر العظمى تحدق الآن بالامبراطورية الأميركية المنفلتة المتعطشة للتوسع والهيمنة، مثلما أحدقت قبل أقل من قرن بالامبراطورية البريطانية التي فرضت هيمنتها بقوة الغزو العسكري على الشرق الأوسط، فهل يمكن «للغزاة الأميركيين أن يقدموا اليوم أفضل مما قدمه الغزاة البريطانيون بالأمس»؟...

ليس بول كنيدي وحده الزاعق بهذا الرأي في الساحة الأميركية التي تصطخب بنشوة الانتصار السريع في العراق، فثمة آراء أخرى تبرز بين الحين والآخر ـ على استحياء ـ على صفحات الصحف أو شاشات التلفزيون، لكنها حتما تضيع تحت دقات طبول النصر، الذي صنعت منه إدارة الرئيس بوش الابن وجماعات «المحافظين الجدد» نصرا يرقى إلى نصر الحرب العالمية الثانية ضد التوسع النازي والفاشي في أوروبا، مع ما يتركه ذلك من نشوة قومية عميقة الأثر في الرأي العام أسير الآلة الإعلامية الجبارة، المغيّب عن إدراك حقائق الأمور، وخصوصا خارج الاهتمامات المعيشية اليومية، وبالأخص خارج حدود الأرض الأميركية!

ولأن للنصر آباء كثر، وخصوصا من نادي المحافظين الجدد شديدي التطرف في صوغ السياسة الخارجية الأميركية، المؤمنين بضرورة استغلال القوة العسكرية الهائلة لتدعيم ركائز الامبراطورية الآن وقبل فوات الأوان، فإن أميركا الراهنة قد وقعت فعلا في براثنهم، من دون أن يتمكن الليبراليون والديمقراطيون من لجم طموحاتهم الاستعمارية حتى الآن على الأقل!!

ونظن أن التاريخ سيسجل للرئيس بوش الابن، أنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي قاد ـ الامبراطورية الجديدة ـ إلى حربين خارج الحدود خلال أقل من عامين من رئاسته الأولى، حرب أفغانستان التي بدأت في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2001 للقضاء على نظام «طالبان» وتنظيم «القاعدة»، وحرب العراق التي بدأت في 20 مارس/ آذار 2003، ولايزال الجيش الأميركي منغمسا ـ أو متورطا ـ في البلدين حتى الآن، من دون حرب حقيقية أو نصر حاسم!!

فإذا مضينا في الطريق إلى النهاية، قد لا ينهي الرئيس بوش رئاسته الأولى في العام 2004، إلا وخاض حربا ثالثة وربما رابعة، إذ لا ندري إلى أي مدى سيستطيع لوبي التوسع الاستعماري من نادي المحافظين الجدد، دفع أميركا إلى مزيد من مخططات التوسع الامبراطوري، وإلى أي مدى سيورطها في صراعات عسكرية جديدة سواء في الشرق الأوسط ـ الذي أصبح في مقدمة أولويات الأمن القومي الأميركي ـ أو في غيره من مناطق العالم!

ولا شك في أن سهولة الحرب سواء في أفغانستان أو في العراق وقلة ضحاياها من الجنود الأميركيين، قد أضفى هالات واسعة وعميقة الأثر، تحمل كل مؤشرات القدرة الأميركية على الانتصار السريع والحاسم، على أي عدو يتحدى الإرادة الأميركية، الأمر الذي ترك في مدركات الرأي العام ارتياحا بل ترحيبا... فإذا كانت هذه هي الحرب ضد الأعداء من الأشرار في العالم فلماذا لا نمضي قدما ونطهر هذا العالم من كل الأشرار؟!

هكذا يصبح التساؤل الأميركي العادي منطقيا ومثيرا للرغبة الجامحة في تفعيل القوة العسكرية الباطشة باسم الحق والعدل والخير والحرية والديمقراطية، في وجه الظلم والبغي والاستبداد، طالما أن هذه القوة ـ حاملة الرسالة السماوية ـ تحارب أعداء بمثل هذا الضعف فتفرض عليهم الهزيمة، وطالما أنها لم تصطدم بعد بأعداء أقوياء لهم قدرة إيقاع الخسائر الفادحة بروح وجسد الامبراطورية الجديدة، المكلفة بهداية البشرية وحماية القانون والنظام في العالم...

فإن كان ذلك شائعا بين العامة تحت التأثير الغلاب للترسانة الإعلامية الجبارة، فإنه يفقد صدقيته سريعا عند العقول المفكرة والضمائر الحية، التي بدأت تنبه الأمة الأميركية، إلى مواطن الزلل ومهاوي الضلال الإنساني الذي تجري نحوه، تحت قيادة سياسية قليلة الخبرة، وقيادة عسكرية متعطشة للغزو والتوسع، وقيادة فكرية تبني منظومتها على حق الامبراطورية الإلهي في قيادة العالم من دون منازع، تلك القيادة التي يؤسس لها المحافظون الجدد، أصحاب النفوذ الكبير والمتصاعد، سواء في البيت الأبيض، أو في الكونغرس، أو في دوائر المال والأعمال والإعلام...

ولم يكن صوت بول كنيدي وحيدا في السباحة ضد التيار العاتي، ولكننا بدأنا نقرأ ونسمع أصواتا أخرى، على صفحات الصحف ونشاهد أصحابها على شاشات التلفزيون، تنبه إلى خطورة الانزلاق نحو هاوية الاستعمار وسط نشوة الانتصار الزائف...

حتى ان صحفا محافظة واسعة الشهرة لها ارتباطاتها الوثيقة بالبيت الأبيض بل وبالمحافظين الجدد، مثل «واشنطن بوست»، و«نيويورك تايمز»، بدأت في الأيام الأخيرة تطرح أفكارا تتساءل عن مشروعية الحرب ضد العراق، وتسأل قادة هذه الحرب ـ السياسيين والعسكريين ـ سؤالا محرجا وهو: أين أسلحة الدمار الشامل في العراق التي كانت المبرر الرئيسي لشن الحرب ضده؟ ولماذا لم تعثروا عليها بعد أكثر من شهر ونصف الشهر... هل هي موجودة ولم تصل إليها القوات الأميركية التي تحتل العراق وتدير كل شيء فيه؟ أم أنها غير موجودة أصلا؟!...

والمعنى أن هذه الأسئلة تطرح من جديد شرعية الحرب ضد العراق، وتضع صدقية الإدارة الأميركية على المحك، ملتقية في ذلك مع آراء ومواقف عربية ودولية أخرى كثيرة، أهمها تلك التي رفضت شن الحرب خارج الشرعية الدولية... ليس هذا فقط، بل هناك الانتقادات الواسعة التي شنها كثير من الساسة والمعلقين، وخصوصا على شاشات التلفزيون الرئيسية، ضد الخطوة الاستعراضية و«المنظرة» الفجة التي مارسها الرئيس بوش قبل أيام، حين هبط بطائرة البحرية الأميركية رقم واحد، على ظهر حاملة للطائرات في قلب المحيط، مرتديا زي الطيارين المقاتلين وتحت إبطه الأيسر خوذته الحربية، ليعلن انتهاء الحرب في العراق وتحقيق النصر المؤزر...

وعلى قدر بساطة هذه الظاهرة، فإن انتقادها بشكل واسع وصل إلى حد التنذر والتنكيت ـ وربما التبكبت ـ يدخل في إطار عدم الاقتناع العميق بأن الامبراطورية الأعظم، قد حققت نصرا حاسما على عدو ماكر كان يهدد صميم الأمن القومي الأميركي، مثلما يعكس إدراكا واسعا بأن ما جرى لم يكن حربا بالمعنى المفهوم، وبالتالي لم يكن نصرا بدقة المفهوم يستحق كل هذه المظاهر الاستعراضية...

وفي ضوء ذلك وغيره كثير مما بدأ يطفو على سطح الحياة في المجتمع الأميركي، الذي أسكرته نشوة الانتصار في العراق، نستطيع تلمس بدايات صحوة تعيد تقويم الحرب ومشروعيتها وتقييم النصر وحقيقته... وهو أمر لا نتوقع أن ينتصر سريعا على موجات صعود اليمين الأميركي المحافظ الحاكم ـ والمتحالف حتما مع اللوبي الصهيوني ـ الذي يعيش الآن أعلى موجات مده وانتشاره...

لكننا نستطيع القول إن مظاهر أولية وبدايات بطيئة، تلوح في الأفق تطلب المحاسبة والمراجعة لمخططات المحافظين الجدد، في دفع أميركا إلى استخدام قوتها العسكرية، وفي فرض هيمنتها الأحادية على العالم في الخارج، وهو أمر يصيب الداخل بالضرورة...

وإصابة الداخل هي الأهم والأخطر في نظر المجتمع الأميركي، لأنها تؤثر مباشرة في حياته اليومية والمعيشية من حيث مستوى الحياة والضرائب ومكتسبات الرعاية الاجتماعية، ومن حيث حرياته العامة والخاصة التي بدأت تعاني من الضغوط وتئن من القيود...

والمؤكد أن الضغوط الداخلية ـ الاقتصادية والديمقراطية ـ خصوصا هي القاعدة الأساس التي يمكن في المستقبل أن تؤثر في قوة تيار المحافظين الجدد، وتلجم بالتالي شهوة الغزاة والتوسعيين، التي ازدادت عنفوانا في ظل هستيريا هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على برجي نيويورك والبنتاغون في واشنطن...

ففي ظل هذه الهستيريا العائمة على أمواج حماية الأمن الداخلي في أميركا من هجمات الإرهابيين، شهدت البلاد أسوأ أنواع القيود والإجراءات الأمنية منذ ما قبل وبعد إقرار الحقوق المدنية، وهي إجراءات مسّت في الصميم الحريات العامة وقيّدتها بشدة وأطلقت أيدي الأجهزة الأمنية بدرجة غير مسبوقة وغير معروفة إلا في العالم الثالث، وبات الأميركيون عموما والعرب والأفارقة والآسيويون والمسلمون خصوصا، رهينة المطاردة والانتقال والتعذيب والطرد والإبعاد، باسم مكافحة الإرهاب... وأصبحت القضية المثارة الآن هنا هي، كيف نحارب الإرهاب ونقضي على منظماته ونمنعه من تكرار هجمات سبتمبر، وفي الوقت نفسه نضمن الحريات العامة وندافع عن ازدهارها في المجتمع الأميركي الذي يزهو بقمة الديمقراطية، وبالتالي كيف نوقف اندفاع الأجهزة الأمنية في ممارسة التعسف ضد حريات الناس العاديين؟...

ولم تكن تلك القضية الجوهرية لتثار في أميركا خصوصا، لولا هذا الكم الهائل من الإجراءات البوليسية والقوانين المقيدة للحريات، التي زادت على الحد خلال العامين الأخيرين، ولولا إحساس المجتمع الأميركي بأنه بدأ عمليا يفقد أهم مميزاته التي يتباهى بها، وهي الحرية التي قام عليها هذا المجتمع وتأسست الدولة العظمى على مدى قرنين من الزمان وفق أصولها وقواعدها...

ونعتقد من دون مغالاة في التفاؤل، أن تفاعل هذه القضية واستمرار طرحها ومناقشتها وتعميقها داخل المجتمع الأميركي، بحكم أهميتها وضروراتها وتراثها العميق، هي وحدها القادرة على عرقلة اندفاع عصابة المحافظين الجدد التوسعيين في شن الحروب خارج الحدود، بدوافع غير مقنعة ولأسباب غير مبررة، حتى لو أسموها بالحروب العادلة أو الشرعية، أو حروب الأخيار ضد الأشرار...

نعتقد أيضا أن الرهان على انتظار تفاعل هذه القضية وسرعة نضجها في الداخل الأميركي، ليس مبررا لعجزنا وقعودنا عن الحركة خارج أميركا، فمن الصواب أن نستمع أيضا إلى الأصوات الأميركية العاقلة التي تقول إن ما يساعد عصابة الغزاة التوسعيين الأميركيين في شن الحروب الخارجية، هو سهولة الاختراق الأميركي لمجتمعاتنا الهشة والمتخلفة التي تعاني وباء تحالف الفقر والاستبداد، ومن ثم الضعف والتخاذل أمام سطوة الهيمنة الأميركية الزاحفة، التي ترفع رايات الديمقراطية نظريا وتمارس الاستغلال والاستعمار عمليا...

أميركا إذن ليست كتلة صماء تقف مصطفة بالكامل وراء الغزاة دعاة الحرب، وأميركا ليست مجتمعا تطهريا بريئا مؤمنا برسالة سماوية لهداية البشرية المتخلفة من أمثالنا، وأميركا ليست بعيدة عن مطامع الهيمنة وطموحات الامبراطورية، لكن أميركا مجتمع مفتوح عادي تسوده صراعات هائلة، يصحو الضمير فيه أحيانا ويغفو أحيانا أخرى، والمهم كيف يمكن لنا أن نتعامل معه، ونصوغ علاقاتنا به على كل المستويات والتكوينات، وليس على مستوى الرئيس وحده... فهو ليس الوحيد في هذا المجتمع...

وهذا هو الفرق بيننا وبينهم!

خير الكلام: يقول أبوالعتاهية:

الباطلُ المحضُ معروفٌ برؤيتهِ

والحقُ يُعرفُ بالأمثالِ والعِبَرِ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 256 - الإثنين 19 مايو 2003م الموافق 17 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً