يعدّ الشيخ العلاّمة يوسف القرضاوي أحد كبار علماء الاسلام العاملين في العصر الحديث، وأحد أعمدة الصحوة الإسلامية المعاصرة، الذين ساهموا في بعثها، ويساهمون في ترشيدها، ويعملون على استمرارها حتى تؤتي ثمارها بإذن الله.
وقد ساهم في إحياء كثير مما اندرس في نفوس المسلمين من معاني الاسلام، فألف الكتب المتنوعة في العلوم الشرعية والفكر الاسلامي وفقه الدعوة والتربية والسياسة والاقتصاد الاسلامي، وقد خصص بعض كتبه للحديث عن هذه الصحوة وترشيدها وتبيان مآثرها، حتى عُدّ «فقيه الصحوة الاسلامية المعاصرة».
بطاقة حياة
ولد الشيخ القرضاوي في قرية «صفط تراب»، مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في غزة ربيع الأول سنة 1345هـ، الموافق 9 سبتمبر/ايلول سنة 1926م. حفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة من عمره ودرس في المعاهد الدينية الأزهرية بمدينة طنطا. تخرج في كلية أصول الدين بالقاهرة سنة 1953، ونال إجازة التدريس سنة 1954. حصل على الدكتوراه من الأزهر بمرتبة الشرف الأولى عن اطروحته (فقه الزكاة) سنة 1973.
تفتحت مواهبه الاسلامية، وبدأت مشاركاته في العمل العام وهو في المعهد الديني بطنطا، تفتحت مواهبه الاسلامية، وأصبح من أعضاء حركة الاخوان المسلمين، كبرى الحركات الاسلامية في العصر الحديث. وقد تعرض للاعتقال عدة مرات في العهدين الملكي والناصري. عمل بعد تخرجه في مراقبة الشئون الدينية بوزارة الاوقاف المصرية، وخطيبا بجامع الزمالك، وفي الإدارة الثقافية بالأزهر الشريف. أعير الى دولة قطر سنة 1961، مديرا لمعهدها الديني، فرئيسا لقسم الدراسات الاسلامية بكلية التربية، فعميدا مؤسسا لكلية الشريعة والدراسات الاسلامية، فمديرا لمركز بحوث السنة والسيرة الذي قام بتأسيسه.
والشيخ عضو في الكثير من المؤسسات العلمية والخيرية مثل: الهيئة الخيرية العالمية في الكويت، المجمع الفقهي لرابطة العالم الاسلامي بمكة، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية بالاردن، مركز الدراسات الاسلامية بأكسفورد، مجلس أمناء الجامعة الاسلامية العالمية بإسلام آباد، منظمة الدعوة الاسلامية بالخرطوم، ورئيس لهيئة الرقابة الشرعية في عدد من المصارف الاسلامية.
المشروع الثقافي
قدم الشيخ القرضاوي إلى المكتبة العربية الاسلامية أكثر من مئة كتاب، ترجم الكثير منها الى اللغات الأجنبية والاسلامية. وقد شملت مؤلفاته مختلف جوانب الثقافة الاسلامية، وقد تلقاها أهل العلم في العالم الاسلامي بالقبول والتقدير. وقد تميزت هذه الكتب بالمزايا الآتية:
أولا: استندت بصفة أساسية الى أصول تراثنا العلمي الاسلامي المعتمد على الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، ولكن لم تنس العصر الذي نعيش فيه، فجمعت بين الأصالة والمعاصرة.
ثانيا: جمعت بين التمحيص العلمي والتأمل الفكري، والتوجه الاصلاحي.
ثالثا: تحررت من التقليد والعصبية المذهبية، كما تحررت من التبعية الفكرية للمذاهب المستوردة من الغرب أو الشرق.
رابعا: اتسمت بالاعتدال بين المتزمتين والمتحللين، وتجلت فيها الوسطية بغير تفريط ولا إفراط.
يحدثنا القرضاوي عن ثقافة الأمة قائلا: «ثقافتنا عربية إسلامية، مكوناتها: الاسلام واللغة العربية. وخصائصها: الربانية، والأخلاقية، والانسانية، والعالمية، والتسامح، والتنوع، والوسطية، والتكامل... ولذلك فلا تناقض بين العروبة والاسلام، ولا صراع بين العلم والدين، فالعلم عندنا دين، والدين عندنا علم، والعلم دليل الايمان، والايمان ملاك العلم. ولهذا يجب ان نعمل على تكوين العقلية العلمية، ونهيئ المناخ العلمي حتى تدخل الأمة عصر التكنولوجيا بخطة ثابتة، ونجدد أخلاق الايمان، ونقف في وجه التيارات المادية واللادينية والاباحية... فنجمع الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة، ونرفض الجمود والتحجر». (انظر كتابه: الثقافة العربية الاسلامية بين الأصالة والمعاصرة).
لقد ساهم العلامة القرضاوي من خلال كتبه التي شملت مختلف الجوانب الشرعية والفقهية والمالية والاخلاقية والاجتماعية مساهمة فعالة في تثقيف الأمة، وتحديد أولوياتها، وتجديد بعض الجوانب التي أهملتها الأمة وقصرت فيها في فترات ما قبل الصحوة.
الصحوة الإسلامية
يمكن فهم نظرة شيخنا القرضاوي الى الصحوة الاسلامية من خلال بعض الكتب التي خصها بالحديث عن هذه الظاهرة الاسلامية المباركة مثل: الصحوة الاسلامية بين الجحود والتطرف، الصحوة الاسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، الصحوة الاسلامية وهموم الوطن العربي والاسلامي، مستقبل الأصولية الاسلامية، هموم المسلم المعاصر، قضايا إسلامية معاصرة على بساط البحث.
الصحوة الاسلامية - كما يرى - ظاهرة اجتماعية حقيقية ملموسة تجسد الاتجاه بقوة الى الاسلام، الى الايمان بالاسلام عقيدة ومنهجا للحياة، والدعوة الى الاسلام والعمل به، فهي فكرة وفهم وايمان وسلوك. وقد كان هناك المتدينون تدينا فرديا في انفسهم، ولكن الصحوة ليست مجرد تدين فردي، بل تدين مع دعوة الى الاسلام باعتباره نظاما للحياة كما نرى من آثار هذه الصحوة في كل مكان. يقول: «هناك فرق بين المسلم الذي يحمله الاسلام، والمسلم الذي يحمل الاسلام، ومسلمو اليوم يحملهم الاسلام عبئا على ظهره. والمسلم المنشود هو الذي يحمل الاسلام فكرة واضحة في رأسه، وعقيدة راسخة في قلبه، وعبادة خالصة لربه، وأخلاقا متكاملة في حياته».
ويصف شيخنا الصحوة بأنها «صحوة عقل، وصحوة عاطفة وشعور، وصحوة سلوك وعمل. صحوة أعادت إلى المسلم الثقة بعقائده ومفاهيمه وقيمه الحميدة، وجعلته يقبل على التعرف على المزيد من القيم النبيلة التي جاءنا بها الاسلام الحنيف... كما انها صحوة التزام بالعمل، العمل للاسلام وبالاسلام».
ويعتبر الشيخ ان المزية الكبرى لهذه الصحوة انها «تجسد الاتجاه الوحيد المعبر بصدق عن ضمير هذه الأمة، وعن هويتها الحضارية والعقائدية، الممثل لشخصيتها التاريخية، المصور لطموحاتها وآمالها النابعة من ذاتها وروحها وكينونتها الحقيقية».
ويعدد القرضاوي الخصائص البارزة لهذه الصحوة كما يأتي:
1- انها صحوة عقل وعلم، يعرف ذلك من يخالط شباب هذه الصحوة، ويرى نهمهم للقراءة، وحبهم للمعرفة.
2- صحوة قلب ومشاعر، يتجلى ذلك في الحماس الدافق الذي نلمسه لدى الشباب.
3- صحوة التزام وعمل... صحوة إرادة وهمة، وسلوك والتزام، صحوة عمل وانتاج، فقد ترجمت الايمان الى عمل، والعقيدة الى سلوك.
4 - صحوة الشباب، الذين هم عمودها الفقري والعنصر الفعال في مسيرتها.
5 - صحوة مسلمين ومسلمات، فللمرأة فيها مكان ملحوظ ودور مرموق.
6 - ومن خصائصها انها عالمية فليست مقصورة على بلد معين، أو اقليم محدود.
أعداء الصحوة
بطبيعة الحال، فإن للصحوة الاسلامية اعداء في الخارج يكيدون لها ويتربصون بها الدوائر، وهؤلاء الأعداء وجودهم كما يرى الشيخ وجود منطقي فهذا ما اقتضته سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع بين الخير والشر... انما الذي يزعج الشيخ ويؤرقه ويذيب قلبه حسرات ان تعادي الصحوة نفسها! وان يكون عدوها من داخلها يقول: «لا يزعجني ان تكون في الصحوة مدارس أو فصائل او جماعات، لكل منها منهجه في خدمة الاسلام، والعمل على التمكين له في الارض... لا مانع ان تتعدد الفصائل والجماعات العاملة لنصرة الاسلام اذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض، على ان يتم بين الجميع قدر من التعاون والتنسيق، حتى يكمل بعضها بعضا».
ويواصل العالم الجليل المتعلق قلبه بالصحوة وبأبنائها كلامه قائلا: «ولكن الذي يدمي القلب حقا ان يوجد بين الدعاة والعاملين من لا يقدر هذا الامر حق قدره، وان يبذر بذور الفرقة اينما حل، وان يبحث عن كل ما يوقد نيران الخلاف».
ويدعو القرضاوي أبناء الصحوة الى التركيز على خمسة أنواع من الفقه، لأننا أحوج ما نكون اليها:
1 - فقه المقاصد، الذي لا يقف عند جزئيات الشريعة ومفرداتها وحدها، بل ينفذ منها الى كلياتها واهدافها في كل جوانب الحياة.
2 - فقه الأولويات ومراتب الأعمال.
3 - فقه السنن، اي القوانين الكونية والاجتماعية التي أقام الله سبحانه عليها عالمنا هذا، مثل سنن التغيير والنصر والتدرج.
4 - فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد.
5 - وأخيرا فقه الاختلاف.
والمعروف أن الشيخ القرضاوي يهتم كل الاهتمام بتأصيل فقه الاختلاف وآدابه بين الدعاة والعاملين للاسلام، وهو يضع لنا - استقاء من الكتاب والسنة - ومن خلال كتبه وخطبه الدعائم الفكرية والعملية التي يقوم عليها فقه الاختلاف، وهي باختصار كما يأتي:
- الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وثروة.
- اتباع المنهج الوسط وترك التنطع في الدين.
- التركيز على المحكمات لا المتشابهات.
- تجنب القطع والانكار في المسائل الاجتهادية.
- تجنب القطع والانكار في المسائل الاجتهادية.
- ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء.
- تحديد المفاهيم والمصطلحات.
- شغل المسلم بهموم أمته الكبرى.
- التعاون في المتفق عليه.
- التسامح في المختلف فيه.
- الكف عمن قال لا إله إلا الله.
مستقبل الصحوة
يعتقد الشيخ ان هذه الصحوة هي معقد الامل ومناط الرجاء لهذه الأمة بعد فشل الحلول المستوردة من ليبرالية وثورية، وأنها هي الغد المرجو والمستقبل المأمول، وخصوصا ان تيار الوسطية فيها هو الغالب السائد، «فالاصل في ديارنا هو الاسلام، مهما شرد عنه الشاردون، أو ضلل عنه المضللون، منه المبتدأ، واليه المنتهى، وفي ساعة العسرة واشتداد الكربة والتباس السبل وغلبة اليأس، لا يجد الناس هنا الا دينهم يهرعون اليه ويلوذون به، يستمدون منه روح القوة، وقوة الروح، وحياة الأمل، وأمل الحياة، ونور الطريق، وطريق النور».
وأخيرا يناشد الشيخ أهل الفكر والعلم والورع ان يرّشدوا خطوات هذه الصحوة، وان يعاملوا هؤلاء الشباب بروح الابوة، فلا يستعلوا عليهم، أو يقفوا منهم موقف الاتهام بوصمهم بالتطرف
العدد 255 - الأحد 18 مايو 2003م الموافق 16 ربيع الاول 1424هـ