السيد محمد خاتمي لربما كان سيحصل على نجاحات أكبر في مهماته لو تنقل بين العواصم الإسلامية للالتقاء بمفكريها وتنشيط عملية الحوار حول القضايا الشائكة التي ترتبط بالحياة العامة للمسلمين. فخاتمي واحد من جيل متميز ظهر مع انتصار الثورة الإسلامية، وهذا الجيل جمع ما بين دراسات الحوزة الدينية والجامعات الحديثة. وهكذا كانت الثورة الإسلامية في سنتها الأولى تحتوي على أساتذة كبار مثل مطهري وبهشتي ومفتح وباهونار وغيرهم. وما ميز هؤلاء أنهم جميعا من علماء الدين، ولكنهم أيضا أنهوا بتفوق دراساتهم الجامعية وساهموا في نشاط الحركة السياسية في بلادهم واستطاعوا الوصول إلى كثير من أهدافهم بما في ذلك إدارة شئون بلادهم بحسب فهم إسلامي استنتجوه من سيرتهم التي عاصروا من خلالها الطروحات والتجارب المختلفة.
لقد وصل الإسلاميون إلى مواقع رئيسية في بلدانهم منذ مطلع الثمانينات، ولديهم حاليا تجارب كثيرة، أخفقت في جوانب، ونجحت في جوانب أخرى. وإلى حد الآن لم تتم مراجعة هذه التجارب بصورة منهجية للاستفادة من أخطاء وإنجازات السنوات الماضية. والبلدان التي وصل فيها الإسلاميون إلى مواقع متقدمة كثيرة، فالمتحدث باسم البرلمان الأندونيسي (أكبر بلد إسلامي من ناحية السكان) أمين رئيس هو من الإسلاميين الإصلاحيين الذين يحملون أفكارا متشابهة مع أفكار سيد محمد خاتمي.
والإسلاميون اليوم في برلمانات عدد غير قليل من البلدان وهم في الحكم في بلدان أخرى. غير أن الإسلاميين الذين دخلوا البرلمانات أو شاركوا في الحكومات أو أداروا الحكومات يواجهون إشكالات كثيرة، وكثير منهم يلجأ إلى معالجتها بصورة عملية ولكن من دون أن يطرح تلك المعالجة ضمن إطار نظري وفكري يمكن الاستفادة منه لإغناء التجارب الأخرى.
فالإيرانيون يعيشون حركة فكرية نشطة، ولو توافرت الترجمات لما يكتبون لاندهش كثير من الذين يعتقدون أنهم يفهمون إيران بمستوى الطرح. والفقه الإسلامي في إيران بدأ يتحرك باتجاهات جديدة. فعلم مقاصد الشريعة، مثلا، الذي كان غائبا عن الحوزات العلمية السائرة على المذهب الجعفري أصبح الآن محورا أساسيا للمطارحات الفكرية الإبداعية التي أنتجت الكثير من التنظيرات المتقدمة. وكذلك مفهوم «المصلحة» الذي كان غائبا عن الفقه الجعفري، وتاريخيا كان فقط لدى الفقه السني (المصالح المرسلة)، أصبح الآن عنوانا رئيسيا في المطارحات الفقهية والفكرية في إيران. بل إن إيران أنشأت مجلسا قائما على هذه الفكرة، وهو «مجلس تشخيص المصلحة». والمجلس يجمع رؤساء السلطات في البلاد ويبتون في أمر اختلفوا عليه، ومن ثم يقومون بتشخيص المصلحة للنظام الإسلامي بحسب اجتهاداتهم ويتخذون قرارا حاسما تجاه ذلك الأمر. وهذه الفكرة أساسا من الفقه السني وليس الجعفري.
والإشارة إلى ما ذكر أعلاه إنما لتوضيح حقيقة، وهي أن الإسلاميين العاملين في الشأن العام تواجههم مشكلات متشابهة ويلجأون إلى حلول متشابهة أيضا.
البعض يرى أن السماح بالحديث والحوار حول إشكالات فكرية إنما يزيد المشكلات بدلا من حلها. فالحديث عن اقتراب أو ابتعاد مفاهيم الديمقراطية عن مفاهيم الإسلام يتحسس منه البعض لاعتقاده أنه يمثل منزلقا خطرا، ولذلك فإنه قد يفضل الابتعاد عنه بصورة كاملة. غير أن التجارب أثبتت أن ما بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم التي أنتجتها عقول إنسانية على مر التاريخ ليست أزمة، لأن المشترك بينها كثير.
فمثلا هناك من يحتج على الديمقراطية لأنها تقول إن السيادة للشعب، بينما الإسلام يرى أن السيادة لله. غير أن السيادة لله لا تعني إلغاء سيادة الإنسان على شأنه، بل إنها تعززها، وهذا ما يحاول الإصلاحيون تأكيده، لأن الله «خلق الإنسان» وفطرته التي تتجه إلى الاتجاه الصحيح، وثم «علمه البيان». فحتى لو لم يأخذ الإنسان بيانه من وحي الهي، فإن فطرته تدفعه إلى الخير بصورة عامة، وهناك تفصيلات ومناقشات كثيرة في هذا المجال، وهنا ليس مجال عرضها، وإنما فقط الإشارة إلى أن الاختلافات عندما تتم مناقشتها تجد لها حلا او بداية حل . وهذا يشمل الإشكالات الخرى التي يواجهها الإصلاحيون الإسلاميون، فالبعض يرى أن البرلمان لا يمكن أن يكون سلطة تشريعية، لأن الشريعة الإسلامية كاملة وليست بحاجة إلى برلمان، وهناك من يرى أن مساواة المسلم بغير المسلم غير ممكنة، أو مساواة الرجل بالمرأة غير ممكنة، أو أن التعددية قد تفسح المجال لحزب لا يؤمن بالله بالوصول إلى سدة الحكم، أو أن الإيمان بحكم الأكثرية قد يؤدي إلى إلغاء حكم من أحكام الشريعة...
هذه كلها احتجاجات مشروعة، ولكن الأجوبة عليها يجب أن يفسح لها المجال، لأن الإسلاميين الذين دخلوا في تجارب سياسية في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها استطاعوا إيجاد حلول عملية لها من دون أن يفقد هؤلاء ثقتهم بقدرة دينهم على التعامل مع مشكلات العصر.
والإسلاميون الذين ليست لديهم مسئوليات سياسية في بلد ما أكثر حرية في التعبير عن أنفسهم وفي طرح أفكارهم، لأنها لن تحسب عليهم سياسيا. ولذلك فإن تسلم مفكرين قديرين مناصب سياسية يحد من قدرتهم على التعاطي بحرية في كثير من الأمور. ويزداد الأمر سوءا عندما يخطئ الإسلاميون وهم مواقع قيادية، بينما أنظار العالم متوجهة نحوهم للضغط عليهم، وبالتالي فإن الخطأ ربما يتضاعف لأن التنازل عن خطوة معينة قد ينظر إليها تراجعا سياسيا.
فالإسلاميون في الكويت أخطأوا كثيرا عندما وقفوا ضد حق المرأة في دخول الحياة العامة، وازدادوا في خطئهم عندما حاولوا تبرير ذلك بأنهم لا يريدون الانصياع للضغوط الأجنبية، وأصبح الأمر وكأنما هناك قوى أجنبية (أميركية) أكثر حرصا على حقوق المرأة من الإسلاميين الكويتيين الذين يعتمدون على أنشطة المرأة في كثير من مجالاتهم...
الإسلاميون يعيشون ضمن ظروف تضغط عليهم باستمرار، وهذا أمر طبيعي لأنهم يتصدرون المعارضات في مختلف البلدان الإسلامية، ولأنهم يمتلكون النفوذ الأوسع في الجماهير. ولكنهم يضرون أنفسهم عندما يحاصرون أنفسهم ويرفضون طرح أفكارهم حول الإشكالات، ربما خوفا من الحال «الشعبوية» التي تضغط عليهم أحيانا، وربما خوفا من اتهامهم بأنهم انزلقوا باتجاه الأفكار غير الإسلامية. ولربما اننا بحاجة إلى عدد من المفكرين المصلحين ان «يصدعوا» بما يؤمنون به لكي تبدأ الإصلاحات من داخل الجسد الإسلامي، بدلا من أن تفرض عليهم من خارج الجسد الإسلامي
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 255 - الأحد 18 مايو 2003م الموافق 16 ربيع الاول 1424هـ