العدد 255 - الأحد 18 مايو 2003م الموافق 16 ربيع الاول 1424هـ

إحداهن...

(1)

الوقت مازال باكرا، وهذا الصغير يتشبث بالحوض مصرا على الاستحمام أدفئ الغرفة، أنزع (بيجامته)، وألفه بالمنشفة ريثما يمتلئ الحوض يراقب الصنبور المفتوح بنفاد صبر، يتخلص من ذراعيا ليلقي بجسده الصغير في الماء. وتزغرد ضحكته احتفالا بالماء الدافئ. يضرب الماء بذاعيه بنزق فيتناثر الرذاذ البارد على شعري وملابسي.

دفئ الغرفة وزجاجة الحليب يغريان الصغير بالنوم، أسرح شعري المبتل ينازعني الصغير الفرشاة، أتركها له، يقلبها ثم يلقيها، ألتقطها وأعود لتسريح شعري.

أعب جرعات من الهواء لكنها تستهلك في صدري سريعا، أخاف أن تداهمني نوبة اختناق.

أراقب عيني الصغير وهو ينعس، زجاجة الحليب تسقط من يده، أستلقي على الأرض بجانب سريره، أتوسد ذراعي وأنام.

(2)

- أما زلت نائمة؟

أهب مرتاعة...

- دقائق ويكون إفطارك جاهزا.

- نومك زاد كثيرا هذه الأيام، راجعي المركز الصحي، ربما تتوحمين.

- هل تأخذني إلى المستوصف النسائي؟

- وما الداعي؟... المركز قربك، تستطيعين الذهاب والعودة متى شئت.

أأنف من استجدائه، هل ينبغي أن أريق ماء وجهي لأعرفه واجبه؟ ألا يشعر بصوتي كيف يخرج وانيا مخنوقا؟ نوبات السعال الليلي التي تحرمني الهجوع.

ألا يهمه اضطراري لكشف صدري لطبيب المركز في كل زيارة. ذلك الرجل المريب النظرات.

- أنت مصابة بحساسية مفرطة.

(هكذا قال لي في الزيارة السابقة).

- أعرف أن المنظفات تتعبني، لكني لا استطيع الاستغناء عنها.

- ليست المنظفات وحدها... يبدو أن هناك ضغوطا نفسية.

-.......

- سواء كان نعم أو لا... لن أقحم نفسي في خصوصياتك، لكنها نصيحة من أخ وليس من طبيب، قليل من اللامبالاة تنفع الحساسين أمثالك.

بتكاسل أقوم بواجباتي المنزلية، أعد الغداء، ثم أستلقي في أيةس غرفة على الأريكة أو على الأرض.. وأغرق في النوم، طريقي الوحيد إلى غيبوبة مشروعة.

(3)

صورتك الدبقة تلح علي، تستدرجني، تنصب لي الفخاخ. تنهكني...

فاستسلم لجبروتها... أتركها تشتعل وتشعل معها أحلامي البائسة.

تتعمد الامساك بسماعة الهاتف عند دخولي، تهمس بكلمات تقوض صلابتي أعلم ألا أحد على الطرف الآخر، اتصنع الجمود واللامبالاة، وأنت تنفذ إلى أعماقي وتسخر من ضعفي وهشاشتي.

زبد البراءة الطافي على عينيك، ابتساماتك التي تنثرها حولي ياسمينا وريحانا ضحكاتك التي تباغتني مفرقعات وألعابا نارية.

عبثا أحاول الفكاك منها، أحيك لها المؤامرات، أخطط لاغتيالها أتصورك تصرخ في وجه زوجتك، وتلوح بيدك في الهواء، ثم تلطمها فأكرهك، أكرهك كثيرا...

لكن عينيك / نافورة الطفولة تومض بعناد، يتهتك القناع الوحشي، ويذوب وتحبط مؤامرتي لتشويهك.

(4)

على رغم أنه بدى متهجما على غير عادته؛ إلا أني جاهدت كي لا أبدأه بالحديث ولم يوجه هو لي أية كلمة طوال مدة الفحوصات الروتينية، وعندما مد يده بالوصفة وجدتني أسأله:

- أعاتب أنت؟

(أشرق وجهه بابتسامة حلوة)

- لا... لكني أخشى أنك أسأت فهمي.

- أفهم أنها مسألة عرف، ربما يكون هذا الأمر مقبولا في مجتمعك، لكنه في عرفنا تصرف غير لائق.

- ألا يحق لي أن أطمئن على مرضاي؟

- هاتفيا لا.

الهاتف يرن، يرفع السماعة ممتعضا...

- مرحبا... أهلا بك... لحظات فقط وأعود إليك...

استأذن منصرفة، ويشيعني بتلك الابتسامة التي أحبها، وإن لم أبادله بمثلها...

- وداعا.

- وداعا يا أحلى مرضاي.

أخرج متعجلة، وعند الباب اقف لألتقط أنفاسي (لماذا يفعل بي ذلك؟)

صوته ينساب هادئا...

- مرحبا... تفضل... لاشيء مهم... ها أنا متفرغ لك تماما...

(تفرقع ضحكته المحببة)... صدقني لا شيء مهم... كالعادة...

إحداهن تحكي لي قصة حياتها...

الهواء ثقيل، أعب جرعات منه، ولاأزال أشعر بالاختناق.

كاتبة سعودية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً