كشف مدير قسم مكافحة الإرهاب في مكتب الجنايات الفيدرالي مانفرد كلينك في الأسبوع الماضي عن سيناريو مرعب، حين قال في إطار ندوة خاصة بخبراء مكافحة الإرهاب في ألمانيا، إن تنظيم (القاعدة) له مؤيدون في أوروبا يبلغ عددهم نحو ألف مؤيد، غالبيتهم لديهم استعداد للقيام بأعمال عنف. لكن كلينك طمأن الحاضرين حين كشف عن أن تقديرات مكتب الجنايات الفيدرالي (البوليس السري الألماني) لا تشير إلى وجود خطر مداهم، فعيون أجهزة الأمن الألمانية مسلطة على المطارات والموانئ ومنافذ العبور من وإلى ألمانيا، كما يعمل عملاء البوليس السري الألماني في مراقبة نحو مئتين من المتطرفين الإسلاميين في مختلف مناطق ألمانيا.
قبل أيام تذكر الألمان كيف أن التخطيط لهجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول العام 2001 على نيويورك وواشنطن، تم في ضاحية هاربورغ بمدينة هامبورغ، وتم اعتقال الطالب المغربي عبدالغني مسعودي الذي يتهمه المدعي العام الأعلى، كاي نيهم، بالتعاون مع خلية محمد عطا والانتماء إلى تنظيم إرهابي أجنبي. ما إذا ستثبت صحة هذه الاتهامات فسيبقي ذلك في علم المجهول، ذلك أن أجهزة الأمن الألماني غالبا ما تتصرف بعصبية حين يدور الأمر حول الاشتباه بشخص يمت بصلة لتنظيم (القاعدة) أو أي تنظيم إسلامي متطرف آخر. يتضح هذا من خلال واقعتين وكلاهما تمّت في ولاية بادن فورتمبيرغ (عاصمتها مدينة شتوتغارت). فقد شكت سيدة ألمانية في برلين للشرطة أن زوجها الفلسطيني آدم ابراهيم كان على صلة بخلية محمد عطا وقالت إن الأخير زاره مرة وسلمه بعض المال.
ما تعرض له آدم ابراهيم الذي قص تجربته على هذه الصحيفة يعكس عصبية الألمان وقال إن زوجته الألمانية سعت إلى الانتقام منه لأنها أرادت ذلك بعد انفصالهما وكان قد سعى إلى العيش والعمل في مدينة شتوتغارت إذ حصل على وظيفة عمل تكفل له عيشة كريمة وإعالة أسرته في المناطق الفلسطينية المحتلة. فوجئ آدم ابراهيم فجر يوم في العام الماضي بقوة أمنية كبيرة تقتحم شقته الصغيرة بعد أن لوحق عدة أيام، وتم العبث بمحتوياتها والدليل الذي عثر عليه المداهمون كان نسخة من المصحف الشريف. في اليوم التالي تحدثت جميع وسائل الإعلام الألمانية عن اعتقال رجل مهم في تنظيم (القاعدة) وظهر وزير داخلية ولاية بادن فورتمبيرغ، توماس شويبلي، في مؤتمر صحافي يتحدث عن كفاءة مكتب الجنايات الفيدرالي في ولايته، لكن سرعان ما تبين أن الاتهامات عارية عن الصحة لكن آدم ابراهيم خسر عمله واضطر إلى مغادرة الولاية بحثا عن قوته في مكان آخر من دون أن تعوّض عليه حكومة بادن فورتمبيرغ قيمة الأضرار التي لحقت به، علما بأن وسائل الإعلام الألمانية لم تذكر كلمة واحدة عن براءة آدم ابراهيم مما نسب إليه.
في الأسبوع الماضي تم إسدال الستار على ما يعرف باسم عملية الإرهاب في هايدلبيرغ حين قضت المحكمة بحبس الشاب التركي عثمان بتمشي مدة 18 شهرا وصديقته التركية التي تحمل الجنسية الأميركية استريد ايزغور مدة نصف عام مع وقف التنفيذ وذلك بعد إدانتهما بحيازة وتعاطي المخدرات. لكن المحكمة برأت عثمان واستريد من تهمة الانتماء إلى تنظيم (القاعدة) والإعداد لتنفيذ عمل إرهابي بعد أن كانت التهمة الرئيسية سعيهما إلى تفجير متجر يقصده الجنود الأميركيون وعائلاتهم في شتوتغارت، عدا أن عثمان لم يكن متطرفا إسلاميا كما زعم وزير داخلية ولاية بادن فورتمبيرغ، توماس شويبلي. وكانت قوة أمن ألمانية قد داهمت شقة عثمان في الخامس من سبتمبر العام 2002 وأشيع وقتذاك أنهما يخططان لعمل إرهابي في اليوم الذي تمر فيه الذكرى الأولى للهجوم على نيويورك وواشنطن. قبل وقت شكت صديقة أميركية لاستريد للشرطة الفيدرالية الأميركية عبر الإنترنت بأن صديقتها باحت لها بسر أن صديقها يعد لتفجير المتجر بتاريخ الحادي عشر من سبتمبر وطلبت منها التغيّب عن الحضور إلى العمل في هذا اليوم.
قامت الشرطة الفيدرالية الأميركية بإخطار سلطات الأمن في ألمانيا التي داهمت شقة عثمان وعثرت فيها على أسمدة كان يستخدمها في زراعة الأفيون. بعد ساعات قليلة على اعتقال عثمان واستريد وصف وزير داخلية الولاية عثمان بأنه متطرف إسلامي لكن تجمعات المسلمين في مدينة شتوتغارت وخصوصا الذين يؤمون جامع صغير يقع على مقربة من مسكن عثمان أكدوا أنهم لم يشاهدوا هذا الشاب في الجامع وأنهم لا يعرفونه. مرة أخرى كان الدليل الذي عثر عليه المداهمون مجلة فيها صورة أسامة بن لادن وكتاب عن الإسلام. بعد أن كان قد تم فرض تعتيم على اعترافات عثمان، قال بعد صدور الحكم إنه أبلغ المحققين بأنه لم يقرأ القرآن في حياته وأن الأسمدة التي وجدت في شقته كانت لغرض إشباع ملاذه بزراعة الأفيون. بعد خروجه من السجن سيواجه عثمان خطر الإبعاد إلى تركيا كما حصل على رسالة من الشركة التي يعمل لها تحتوي على قرار الفصل.
من المقرر أن يجتمع وزراء داخلية الولايات الألمانية البالغ عددها 16 ولاية يومي 14 و15 الشهر الجاري لمناقشة استراتيجية مشتركة بشأن مكافحة المتطرفين الإسلاميين في ألمانيا وتحسين سبل التعاون بين مختلف دوائر الأمن التابعة لها وخصوصا مجال تبادل المعلومات. وتقول أني رملزبيرغر المحررة في صحيفة (زود دويتشه) الصادرة بمدينة ميونيخ إن نظام الأمن في ألمانيا يشكل بنفسه مشكلة في تحقيق التعاون، وتشير في هذا السياق إلى وجود 34 جهة أمنية مستقلة تعمل كل منها بمعزل عن الأخرى، فهناك مكتب جنايات في كل ولاية إضافة إلى مكتب للبوليس السري ومكتب الجنايات الفيدرالي والبوليس السري الفيدرالي. ويرى وكيل الدولة السابق بوزارة الداخلية الاتحادية إيكارت فيرتباخ أن هذا الانقسام الذي تعاني منه أجهزة الأمن الألمانية لا يساعد على محاربة الإرهاب بصورة عملية ويطالب منذ وقت بإنشاء جهاز مركزي لكن كلامه لم يجد صدى، ما دفعه للتصريح حديثا: «ستفكر الحكومة باقتراحي في حال واحدة: إذا وقع في ألمانيا حادث مثل حادث جربة أو بالي».
يقول أحد كبار رجال التحري في ولاية بادن فورتمبيرغ، راينهارد تينش، إن المتطرفين الإسلاميين في ألمانيا يعملون باستراتيجية تكشف عن معرفتهم بأنهم يخضعون لمراقبة البوليس السري الألماني، ويسعون إلى الفرار من المراقبة ويتخذون أقصى درجات الحذر عند استخدام أجهزة الهاتف وعند اضطرارهم إلى إجراء مكالمات هاتفية مهمة يقومون بشراء هاتف محمول يستخدمونه لعدة مكالمات فقط، ما يحول دون التقاط المكالمات الهاتفية التي يجرونها للتعرف على مضمونها، كما يصعب التعرف إذا قاموا بالسفر إلى أفغانستان أو باكستان إذ تعتقد المخابرات الألمانية أن قيادة (القاعدة) موجودة في الحدود الممتدة بين البلدين لأن هؤلاء يزعمون بأنهم فقدوا وثائق السفر الخاصة بهم لأنها تحتوي على أختام دخول ومغادرة باكستان، وحتى مجموعة من الدول العربية عرضة للشبهة. ويعتقد كلينك أن نهاية حرب العراق والضعف الذي لحق بتنظيم (القاعدة) بسبب حرب أفغانستان يجعل التنظيم يركز على نشاطات مؤيديه في أوروبا وخصوصا ألمانيا التي بالنظر إلى استخدامها من قبل خلية محمد عطا، تعتبر ساحة مفضلة عند المتطرفين الإسلاميين.
لكن كلينك يرى من ناحية أخرى خطرا يهدد ألمانيا بسبب المساهمة العسكرية التي تقدمها ألمانيا إلى أفغانستان إذ تشرف مع هولندا على قيادة قوة الحماية الدولية ISAF وبهذا فإنها إلى جانب الولايات المتحدة العدو الثاني الكبير لأسامة بن لادن. في هذه الأثناء تواجه سلطات الأمن الألمانية مشكلة نشأت مع الوقت. فحين يكون بوسع الحكومة البريطانية إبعاد متطرفين إسلاميين على رغم أنهم يحملون الجنسية البريطانية فإن القانون الأساسي في ألمانيا لا يسمح بهذه الخطوة. ومنذ وقت تتحدث وسائل الإعلام الألمانية عن زيادة كبيرة في أعداد المتطرفين الإسلاميين الذين قدموا طلبات التجنس بينما مجموعة كبيرة من الذين يخضعون لمراقبة البوليس السري يحملون الجنسية الألمانية ونجحوا في بناء بنية خاصة بهم: فهم يتعاملون مع أطباء وتجار سيارات ومكاتب للسفر ومحامين على صلة وثيقة بحركتهم، وأقاموا منذ وقت داخل ألمانيا مجتمعا يصعب على البوليس السري الألماني اختراقه بسهولة
العدد 254 - السبت 17 مايو 2003م الموافق 15 ربيع الاول 1424هـ