العدد 253 - الجمعة 16 مايو 2003م الموافق 14 ربيع الاول 1424هـ

الملفات الساخنة... طموحات حزبيّة وآلام منسيّة

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

منذ بداية الانفتاح السياسي في البحرين، وتجلي الكيانات السياسية بصورتها الأولية قبل نشوء التحالفات الحالية، كان لسان حال الجميع: من يصوغ الموقف الوطني أولا، وأظهرت الكتابات التي نشرها الكثير من المنتمين إلى التيارات السياسية في الصحافة المحلية في العام الأول للميثاق، هذه الطموحات بسجيتها السياسية العفوية، من دون تكلف أو وضع محاذير في طريقها، في حال من التعالي والقفز على الهوى العفوي السائد عند الجماهير، والمزاج السياسي العام الذي لا يعترف بهذه الفئة أو تلك في ميوله وانتماءاته، إلا أن هذا السلوك جاء بعيدا عن التقديرات الموضوعية، لأن الكل كان يعتقد أن الاستحقاق الكبير آت لا محالة، وأفرز الواقع غير ذلك.

مع بروز المحطات المعقدة في الحالة السياسية في البحرين، ومنها مسألة التغييرات الدستورية، وما صاحبها من ردود فعل متباينة تجاهها، ثم الانتخابات البلدية وما أحدثته من تصدع في الصف الوطني، إذ أظهرت وللمرة الأولى عفوية التيارات السياسية في التعبير عن حالات الانتصار أو الهزيمة أو الخذلان، ثم الانتخابات النيابية، وما سبقها من سجال مارثوني بشأن المشاركة والمقاطعة، وما أعقبها من اصطفاف جديد لقوى المعارضة، وتأثير ذلك على أشكال التحالفات بين التيارات بانقسامها إلى مشارك ومقاطع، يبقى السؤال للجميع: هل تخلت الأطراف المتحالفة وغير المتحالفة عن الرؤية الواحدة في صوغ الموقف الوطني؟ أم أن هذه الرؤية زادت انتعاشا على حساب الموقف الوطني الواحد؟ وما هذه التحالفات إلا جدار وهمي، يتوارى خلفه التدافع السري والإيقاع النهم للاستحواذ البطيء على كل مفاصل ومواقع الساحة الحيوية، في ظل عجز الجميع عن تبني خيارات الناس وقضاياهم المعيشية والمصيرية.

قد يتوقف المرء قليلا وهو ينوي الكتابة في هذا الموضوع، خوفا من تصدع الحالة الوطنية أكثر مما هي عليه الآن، إلا أن نظرة فاحصة لهذه الحالة المتوارية المتوحشة، تجعل المرء يراجع جميع حساباته ومحذوراته، ويجد نفسه أمام أمانة يجب أن يؤديها مهما كان ثمن قول الحقيقة، حتى لا يفيق الناس على كابوس الذوات والكيانات، وقد أُلتهم اليابس والأخضر في الساحة الوطنية، وإذا كانت النوايا صادقة، والتحالفات قوية ومتينة، فهي الآن أمام اختبار التعرية والمكاشفة لها في كل سلوكها السري، والموغل في السرية إلى درجة الإنهاك والغيبوبة، لتكشف هي بدورها عن واقع مغاير للتوقعات إزاءها، وتكشف أيضا مدى صلابة هذه التحالفات.

إذا جئنا إلى الاعتصام الأخير للجمعيات السياسية الأربع المقاطعة أمام دار الحكومة، لتحريك ملف العاطلين عن العمل، والحضور الضعيف لأصحاب الشأن، وما صاحب ذلك من تعليقات وتحليلات تحمّل الأطراف المعارضة مسئولية تفرق الناس عن تجمعاتهم وكل نشاطاتهم السياسية، فكل هذه الأمور لا تخرج عن دائرة ردود الفعل غير المنتجة، ففي النهاية لن تزلزل عقيدة المتشبثين بمواقعهم بشأن أزلية ومركزية الموقع والرمز في قضايا الناس المصيرية، كما أنها لن تحدث استقالات جماعية من المقصرين في تحمل هذه المسئولية نتيجة إخفاقهم الذريع حتى في التعاطي الأولي مع هذه القضايا، وفي أهون الأمور المتوقعة لن تخلق حال مراجعة لهذه المواقف، وكل ما سيقال إنها حالات تذمر معتادة، وإن الناس «لا يعجبهم العجب، ولا الصيام في رجب»!

لكننا يمكن أن نسلط الضوء على مفارقتين من نوع خاص بشأن جدلية التحالفات والملفات الساخنة من جهة، وتأثير الواقع الرمزي على حلحلة هذه الملفات من جهة أخرى، فهاتين المفارقتين أخطر في نتائجهما من ردود الفعل الجزئية والمؤقتة، لأنهما تدللان على مأزق هذا التحالف في ظل تصارع الذوات، وتدللان أيضا على أن الرؤية الواحدة في صوغ الموقف الوطني مازالت حاكمة بل متيقظة لكل داخل عليها أو مساهم فيها، ولو بالنقد والتحليل والمراجعة.

على المستوى الإسلامي، وفي دائرة رموزه ومؤسساته وقواعده الجماهيرية، نجد مساحتين للتحرك بشأن الملفات الساخنة تحديدا، المساحة التي ينطلق منها الشباب من خلال اللجان المختلفة، مثل لجنة المدرسين العاطلين عن العمل، واللجنة الوطنية لمساندة الشهداء وضحايا التعذيب، وهذه اللجان في غالبيتها متحررة من أية التزامات لجهة بعينها في إطارها الميداني، وهي أعرف بكوادرها واحتياجاتها الخاصة وطرق عملها، لأنها صاحبة الشأن الأول والأخير، وكل ما ترجوه من الجمعيات السياسية دعما رمزيا لا يكلفها سوى إصدار بيان، لذلك تجدها نشطة في حركتها، وأدواتها واضحة غير مترددة، وأمثلة على هذا النشاط: عريضة شعبية تطالب بإلغاء قانون «56»، واعتصامات لمحاكمة عادل فليفل والمسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، وحملة منظمة للجنة المدرسين العاطلين عن العمل، أنتجت أكبر حملة توظيف في قطاع التربية والتعليم خلال السنتين الماضيتين، وغيرها من التحركات التي شهدتها الساحة على يد اللجان الشعبية المؤقتة، في ظل غياب الدور الفاعل للجمعيات السياسية.

هنا تأتي المفارقة الأولى، فغالبية هؤلاء الشباب يرتبطون بعاطفة النضال المشترك والإحساس بثقل ورمزية هذه الجمعيات السياسية، لأنها واجهة لخطوط وتيارات ينتمون إليها، في حين تأتي غالبية معالجات الجمعيات على هيئة محذورات وممنوعات وهواجس تقيد حركة هذه اللجان النشطة، وتطالبها بالسير في الخطوط العامة التي ترسمها لها، ما يجعل حال التحفز والاستعانة بالأدوات السياسية المشروعة في صورتها العفوية والناضجة محكومة بالمزاج السياسي للجمعيات، وتقديراتها الأمنية لكل حدث سياسي أو غير سياسي، ما يؤدي إلى إضعاف دور هذه اللجان، أو جعلها تتورط في مناكفة حادة مع الجمعيات تتخذ بعدها خيارات أخرى لا ترضيها.

في هذا السياق، يأتي الفهم للاعتصام الأخير عند دار الحكومة، بأنه جاء بعد صيام طويل، وعدم تفاعل الجمعيات مع هذه الملفات باعتراف رموزها، لأنهم كانوا يخشون أن يوصموا بتحريض الشارع، ولم يأت الاعتصام الأخير لينفي هذه التهمة، ولا يبرر حدوثه هكذا فجأة بعد هذا الصيام الطويل، كما أنه جاء من دون مقدمات ولا مطالب واضحة، وكل ما قاله رموز الجمعيات في ذلك الاعتصام ذكرته بياناتهم التي لا تعد ولا تحصى في هذا المجال، فما الجديد الذي ينتظره العاطل عن العمل، أن يسمع كلاما سمعه وشبع منه، فالأفضل له ألا يسمع ولا يحضر.

هذه الحال التي لا تنم عن وجود خيار واضح، هل مردها أن الجمعيات المقاطعة لا تمتلك الخيار بعد أن قاطعت البرلمان وأصبحت خارج اللعبة كما يتردد على لسان الكثيرين، ليست هنا المشكلة تحديدا، المشكلة أن هذه الجمعيات ليس لديها إحساس داخلي بكيانها المؤسسي وكينونة أعضائها، ولا بطبيعة التحول من دائرة الأشخاص إلى دائرة المؤسسة، وهناك فارق موضوعي، وخيط فاصل بين دور المؤسسة والرمز، وهذا ما لم تتجاوزه الجماهير ولا الرموز، وبقيت غالبية معالجات القضايا لا تتعدى دائرة الرمز وما يعدّ به، في واقع قد يتجاوز قدرته على تحمل جميع الأعباء في ظل الاستحقاقات الضخمة، فهل المطلوب من الرمز تهييج مشاعر الناس بكلمات كالدخان يظلل ساحة الحفل، ليتبخر مع الأنفاس الحرى المختلطة بتلك العبارات التي تطلق في الهواء، ثم سرعان ما ينسى الناس، وتأتي فعالية أخرى ليتكرر السيناريو، وتتفرغ كل كوادر الجمعيات المعطلة عن أي فعل آخر، لتنظيم الكراسي والإعداد للحفل، للاستماع بعد ذلك إلى ما يقوله الرمز!

هذا المشهد الرتيب الممل القاتل، الذي يركز كل طاقة الأمة في وحدة مركزية ماثلة بكل استفراد، مملوءة بالكلام والكلام فقط، ويقود الأجنحة الموالية إلى ترجيح هذا الخيار أو ذاك، فيه قتل لحيوية هذه الملفات، وإخضاعها للكثير من الحسابات، فبدل أن تفعّل اللجان، وتنطلق حيوية وأفكار الشباب فيها، لتخرج عن مركزية القرار في تفاصيلها الميدانية، إلى حال دينامكية متابعة متحفزة، تمتلك الخيارات والأدوات والأرقام والإحصاءات التي تجابه بها المسئولين، وتضعهم أمام استحقاق محدد لا يقبل التعويم ولا التأويل ولا التبرير، تكتفي هذه الجمعيات بأن تشير في بياناتها وفعالياتها إلى التدليل على وقوفها مع هذه القضايا، ويبقي أصحاب الشأن يعانون، ويبقي الخيار مفتوحا لهم لطرق باب جهات أخرى، وربما كان أكثر الأمور إيلاما على مستوى اهتزاز القناعات والمواقف السياسية عند هؤلاء، لجوء الكثير من هذه الأطراف بإيعاز من جهات مقاطعة، وبشكل سري إلى البرلمان الذي قاطعته لحل قضاياها، في تناقض صارخ بين شعار المقاطعة الذي رفعته والتعاطي مع البرلمان، وعدم إخفاء هذه الجهات إحساسها بالتناقض أمام ضيق الخيارات وقلة الحيلة.

ليس هذا الطرح من باب الاستعداء لجهة بعينها، ولا تضييق للخيارات على أحد، وإنما هي دعوة إلى الجمعيات السياسية لمراجعة خياراتها وأدواتها السياسية من جديد، ومراجعة مواقفها السياسية، وشفافيتها في التعاطي مع جمهورها، فنحن لسنا أمام مفاوضات سرية بين دول كبرى أو أطراف متصارعة لا تريد الخروج من صراعها مهزومة، فتمارس سرية الهزيمة من مفاوضاتها مع الطرف المنتصر، نحن أمام موقف وطني يحتاج منا خيارا واضحا غير مموّه في النظر إلى القضايا المصيرية، ويحتاج إلى مراجعة الأدوات والآليات قبل الانتقال المفضوح إلى الخيار التالي، حتى لا تتكرر الهزائم نتيجة عدم وضوح الرؤية، وعدم تلمس الخيارات بشفافية وصدق.

وفي هذا الجانب يمكن القول: إن لدى الجمعيات الأربع المقاطعة خيارات عدة لحلحلة الملفات الساخنة بما فيها ملف البطالة، ومنها تكوين ملف متكامل بشأن أعداد العاطلين عن العمل ومؤهلاتهم والوظائف التي يمكن أن يشغلوها، وتحريك الأعداد المهملة من العاطلين ممن لا يملكون المؤهلات، والعمل على تدريبهم بعد تحديد خياراتهم بدقة ومعرفة متطلبات سوق العمل، لتخرج الشعارات من دائرة العموميات إلى دائرة التحديد المركز والمُلزم والمحرج لكل المؤسسات الخاصة والعامة في الدولة، وتشكيل اللجان المناطقية، وإعادة روح الأمل لهذا القطاع الحيوي، من خلال خطاب ميداني يعيد الأمل والتفاعل الجماهيري مع هذه الجمعيات، فتكون نعم المدافع عن حقوق الناس بعد أن عرفت عمن تدافع.

تبقى المفارقة الأخيرة، وهي تحتاج إلى الكثير من التأمل والمراجعة، والكثير من تحديد الخيارات الوطنية والخاصة، والكثير من الفهم للطموح المشروع وغير المشروع في ظل الدائرة الوطنية والوطنية فحسب. فالمتابع لشئون الجمعيات الأربع المقاطعة، يحسب أن الحميمية وصلت أوجها بين هذه الجمعيات، وأن حال الاستغراق والعاطفة البينية تعدت العشق والهيام، وبلغت مستوى تعبير رئيس جمعية العمل الديمقراطي عبدالرحمن النعيمي في العام الأول للميثاق «إن ما بين التيار الوطني والإسلامي من ملفات، يمكن أن يشكل حال اتفاق دائمة لدورات برلمانية متعاقبة»، إلا أن هذا الخيار سقط في رهان الانتخابات البلدية، ولم يدخل المقاطعون الانتخابات النيابية لنقيس حجم ثباتهم على مقولاتهم.

ما نشهده من جمود في دائرة التكتيكات البينية للجمعيات الأربع، وتناسٍ للكثير من الملفات الساخنة لفترة غير قصيرة، على أمل الخروج ببرنامج موحد بشأن مجمل قضايا الساحة، يلقي الضوء على ممارسة من نوع آخر، فيها الكثير من الاستغفال والغفلة، والاستدراج والاستمراء للواقع الحزبي بكل نشاطاته الظاهرة والخفية، ما يؤذن بطلاق غير محمود إذا ما انكشفت لعبة الودّ الساذج والمخيف.

أبرز مظاهر هذا الودّ، ما يقوم به اتحاد عمال البحرين المعروفة انتماءات كوادره، من تحشيد للنقابات في القطاع الحكومي، ودعوتها إلى التحول إلى نقابات عمالية بدل أن تكون مهنية، إضافة إلى اندراج الكثير من النقابات العمالية تحت مظلة الاتحاد، وسيطرة التيار الوطني على الاتحاد وغيره من المواقع الحيوية، في ظل غياب الخيار الديمقراطي الواضح عنها، بعد أن تحولت إلى مواقع للنخب الوطنية وابتعدت عن مراكز الثقل الشعبية المعروفة التوجه والانتماءات، ذات الشأن اللصيق بهذه المواقع، يضاف إلى ذلك تصريحات أحد المعارضين في الجمعيات المقاطعة بأن ملف البطالة سيُوكل إلى اتحاد عمال البحرين، ونشاط الجمعيات الوطنية في دائرة العمال والطلبة الجامعيين تحديدا، يكشف لنا طبيعة هذا الود من جهة، وحجم الغفلة والاستغفال لتيار عريض بكامله من جهة أخرى، ويكشف لنا أيضا أن الخيار الوطني مازال خيار الرؤية الواحدة، وأن التاريخ يتجلى بكذبه وصدقه، وبكل إسقاطاته المأسوية الحزبية والفئوية التي توازي مأسوية السلطة بل تفوقها في بعض الأحيان.

من جهة أخرى، يكشف لنا هذا الواقع سذاجة الطرف الغارق في سبحانيته وملكوتيته، الطرف الغارق في خيار التردد وتردد الخيار وضياعه، وياليت هذه السبحانية تقف عند حد، ففي ظل غياب الرؤية والإنجاز معا، يأتينا أحد أعضاء الوفاق ليقول: «إننا لا نريد أن نركز الاهتمام على قائمة الوفاق التي فازت في البلديات أو التي فازت في الجامعة، لكي لا تضيق الحكومة الخيار عليهم، وتمنعهم من خدمة الناس» غريب هذا الأمر، وهل أعضاء الوفاق وكوادرها مجهولون حتى لا تعرفهم الحكومة؟ وهل مثل هذا التصور بإمكانه أن يضغط وينجز ويحقق مصالح الناس؟ أين هذه السبحانية من الطرف الآخر الذي يخطب ود قواعدكم، ويتلمس طريقه المعارض مثلكم؟ غريب هذا الود! وياليت من نعموا بتصفيق الجماهير وهم نخب أو (ضباط من دون جنود) ياليتهم يسمحون لهؤلاء الجنود بأن يدخلوا مواقعهم الحصينة من الباب لا من النوافذ، وإلا فحصونهم أكثر منعة من الداخلية والدفاع، ولن يطول التطبيل والتزمير لأحد.

نقطة نظام تاريخية أخرى وأخيرة، ماذا يتمنى الوطنيون، أن تتحقق نظرية الاشتراكي الليبرالي الإسلامي معا، ليقع على غنائم الفيء والإقطاع معا، ويدعو إلى التوزيع العادل للثروة، ويتبنى المطالب العمالية من على كرسيّه الوثير ووسط غنائمه وجمهوره البائس المعدم، وماذا يتمنى الإسلاميون، أن تتحقق جنة الله في الأرض، وتصبح الحاكمية لرجل الدين، ويزيد التقديس والتهليل لحجة الله على خلقه وعباده، «هِيْه»... أفيقوا... هنا وطن، ومواقعكم ليست كالوطن، بل لا تعدل ذرة من تراب الوطن

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 253 - الجمعة 16 مايو 2003م الموافق 14 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً