مضى أكثر من شهر على سقوط تكريت. مسقط رأس صدام حسين والمدينة الأخيرة التي تعلن الاستسلام لقوات الاحتلال الأميركية.
مضى أكثر من شهر والولايات المتحدة تحاول ترميم علاقاتها الدولية من خلال استثمار فوزها العسكري بسلسلة خطوات تقاربية مع دول الضد (الدول التي رفضت الحرب) مستخدمة أدوات الترغيب والترهيب. هناك دول تريد واشنطن معاقبتها سياسيا واقتصاديا بسبب مواقفها التي انطلقت من المبادئ الدولية لحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وهناك دول تريد إدارة البيت الأبيض كسب ودها لكسر حلقة الحصار الدولي المضروب حول أميركا بسبب سلوكها العدواني. وهناك دول تطمح إدارة الرئيس جورج بوش كسب تأييدها للقول ان فوزها العسكري بدأ يستعيد حيويته السياسية وأخذ يتحول مع الأيام إلى واقع قسري لا يمكن رده إلى الوراء... ما دام الذي حصل قد حصل.
حتى الآن لا يزال الفوز العسكري على العراق مجرد احتلال فرضته قوة كبرى على دولة ضعيفة ومعزولة ومحاصرة منذ أكثر من 12 سنة. وحتى الآن لم يتحول الفوز إلى انتصار سياسي تتباهى به دولة تملك من السلاح والإمكانات وتجتمع لديها من عناصر القوة ما لم تتوافر لدولة أخرى في التاريخ المعاصر وربما القديم.
مضى أكثر من شهر على سقوط تكريت... وحتى الآن لا تزال قوات الاحتلال تبحث عن رأس صدام وعن مخرج للكارثة الانسانية التي حلّت بالعراق... وعن «سلاح الدمار الشامل» الذي كان السبب الذي تذرعت به واشنطن لتبرير عدوانها.
الأهم من العراق هناك مشكلة صدقية الولايات المتحدة الدولية. فالدولة الأولى في العالم خطفت العراق إلا انها فشلت في كسب تأييد العالم. فالعالم لا يزال يشكك بالفوز العسكري ويعتبر ان هناك مؤامرة جرت لقلب نظام الحكم وتم تدبيرها في اللحظات الأخيرة التي سبقت سقوط بغداد ودخول قوات الاحتلال ساحة الفردوس.
خطفت أميركا العراق وخسرت صدقيتها الدولية ومع ذلك تريد واشنطن من العالم الاعتراف بفوزها العسكري وتشريع عدوانها وإقامة علاقات عادية مع الاحتلال.
حتى الآن هذا الأمر لم يحصل على رغم الخسائر المالية والاقتصادية التي أصابت الدول والشركات من العدوان والاحتلال. وحتى الآن تحاول واشنطن استثمار فوزها العسكري من خلال اللعب بمصالح الأمم وثروات الشعوب مستخدمة نفط العراق لشراء أصوات مجلس الأمن لكسب تأييدها وتشريع عدوانها.
أميركا الآن وبعد أكثر من شهر على سقوط تكريت تبذل الجهود الضخمة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية لشق صفوف جبهة مقاومة الحرب والعدوان من خلال التفرقة بين روسيا وفرنسا وألمانيا. وكذلك تجتهد سياسيا للتمييز بين دول عربية وعربية... وعربية وإسلامية... وأوروبية وأوروبية حتى تعيد السيطرة على اللعبة الدولية التي لا تقودها الجيوش فقط بل تنسجها المصالح والعلاقات التي تحترم عقول الناس في الدرجة الأولى.
أميركا الآن... وبعد أكثر من شهر على سقوط تكريت تحاول ترميم علاقاتها الدولية بدءا من جارتها الشمالية كندا التي وقفت ضد الحرب رسميا وشعبيا، وانتهاء بالصين التي اختارت مراقبة الوضع الدولي من خلال توتر علاقات جارتها الجنوبية (كورية الشمالية) مع الولايات المتحدة. وبين كندا والصين هناك روسيا وأوروبا. فروسيا لاحظت ان أميركا تزحف عسكريا من حدودها الغربية من خلال نقل قواتها وقواعدها من ألمانيا إلى جاراتها الشرقية (رومانيا وبولندا وبلغاريا). وألمانيا التي كسبت ثقة العالم (أوروبا الغربية تحديدا) خسرت صداقتها التقليدية مع الولايات المتحدة تريد ترميم علاقاتها بإعادة ترتيب الصداقة في ضوء توازن المصالح والحاجات. أما فرنسا التي تراجعت كثيرا عن مواقفها السابقة فهي لا تزال في موضع الدول الرافضة للاعتراف بنتائج العدوان وهي لم تصل بعد في إعادة دراسة حساباتها إلى درجة تعطي فيها «اللون الأخضر» للاحتلال. ففرنسا تدرك ان موافقتها على الحرب على العراق لا تقف عند هذا الحد إذ قد تتحول تشريع الإحتلال إلى سياسة دولية تقودها الولايات المتحدة ضد أية دولة أخرى تختارها في الوقت القريب.
أميركا تريد فن العزلة... ودول العالم تنتظر محاولات واشنطن إعادة تطويق الدول التي رفضت الحرب من خلال رسم سياسات جديدة تعتمد مبدأ القوة أولا ثم المصالح ثانيا.
وأميركا تريد ترميم علاقاتها الدولية مع الدول التي تمردت على هيمنتها من خلال شق صفوفها معتمدة سياسة إعادة تعريف العلاقات وتصنيف الدول بين «شريرة» و«معادية» و«صديقة» و«نصف صديقة» و«حليفة» و«نصف حليفة»... وأخيرا تعيد ترتيب دبلوماسيتها في ضوء استراتيجيتها الهجومية التي تشق العالم إلى معسكرين: مع أميركا وضدها.
مضى أكثر من شهر على سقوط تكريت والبيت الأبيض يحاول ترميم العزلة... إلا ان معظم دول العالم لا تزال تنتظر جواب أميركا على سؤال بسيط: هل العراق هو نهاية الهجوم أم هو محطة أولى في سلسلة حلقات وهجمات مقبلة؟
حتى الآن أجوبة واشنطن غامضة ومشتتة فهي لا تقول الحقيقة ولا تعطي الكلام النهائي في هذه المسألة، وبسبب التباس المواقف من الصعب أن تحصل أميركا على موافقة نهائية على سياستها الهجومية على العراق. فالخوف هو أن يتحول تشريع الإحتلال إلى سابقة دولية يستفيد منها البيت الأبيض لتكرار فعلته في بلاد الرافدين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 253 - الجمعة 16 مايو 2003م الموافق 14 ربيع الاول 1424هـ