العدد 267 - الجمعة 30 مايو 2003م الموافق 28 ربيع الاول 1424هـ

ما هو الإصلاح المطلوب؟

حتى لا تتكرر العودة إلى الوصاية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

كان الإقليم العربي بكل مشكلاته في العقود الخمسة الأخيرة من حروب أهلية وحروب بينية وانقلابات عسكرية يخضع لحسابات إقليمية، وكان التدخل الخارجي يتم مؤقتا من أجل الضبط والتصحيح وربما التحريض، ولم يعد الأمر بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 يخضع لآليات ما قبله، لقد اختلفت المعادلة جذريا، فأصبح التدخل واضحا من دون مواربة، فقط وسيلته تختلف لا مبدأه، وهدفه ضبط الإقليم العربي متناغما مع التطورات الدولية إلى حد (إعلان الوصاية) كما حدث بعد قرار مجلس الأمن الدولي الأخير على العراق.

وبصرف النظر عن أحقية المعادلة الجديدة من عدمها، عقلانيتها أو عدم عقلانيتها، فقد أصبحت حقيقة واقعة، يتحتم على متخذي القرار في بلادنا أن يأخذوها بالحسبان.

و المعادلة الجديدة تتلخص في (الأمل بالحرية) هذه الكلمات القليلة ذات المعنى المتعدد والكبيرة في مقاصدها، هي لب معزوفة السياسة القائمة.

ردة فعل العرب تشكل أزمة تظهر بوضوح في أكثر من مكان وبصور كثيرة، ردة فعلنا على قرار مجلس الأمن تمتنع سورية العضو فيه ثم توافق لا حقا، ويمكن رصد ردة الفعل (المترددة) تجاه التفجيرات في مدينتي الرياض والدار البيضاء، إنها فجيعة، قتل أناس أبرياء لم يقترفوا ذنبا ومدنيين آمنين في منازلهم ومكاتبهم وأماكن عملهم، ذلك عمل لا يغتفر، ومن ثم ماذا عن (الأبرياء الآمنين في مكاتبهم في برجي التجارة العالمي في نيويورك) أليس هذا مثل ذلك، وإدانة هذا تتطلب إدانة ذلك أيضا، تبرير اجتثاث أسباب الثاني من تبرير اجتثاث الأول، ومع ذلك فلايزال بعضنا يبرر الثاني ويتطلب له الأعذار!

بسبب قوة الدولة العظمى وهي الولايات المتحدة فان الإدانة في الحوادث الأولى تبعتها مجموعة من الخطوات السياسية والعسكرية (للتأكد من عدم تكرار ذلك) وعلى رغم أن الفعل واحد فان ردة الفعل مختلفة، وفي المشهد العربي تكرار لمقولات قديمة، لذلك فإن إدانة الإرهاب لا بد أن تكون مطلقة ولا تكون انتقائية، الانتقائية هنا هي تعبير ثقافي يحتاج إلى إصلاح.

من التعبيرات الثقافية مما يمكن ملاحظته أن هناك (ثبوتا) في المشهد العربي الذي يتردد حتى الساعة في المشاركة بالتناغم، وما نراه مؤشرا على هذا الثبوت، هو المثال الحي من لوحات كاريكاتورية تعبر عن الأوضاع السياسية التي تنشر في صحفنا، ويحضرني الآن ثلاث شخصيات من المبدعين العرب، الأول الفنان المرحوم ناجي العلي، والثاني الفنان المرحوم محمود كحيل والثالث يعيش بيننا هو الفنان علي فرزات، لوحات الفنانين الثلاثة القديمة والقديمة جدا، عندما يعاد نشرها اليوم تعبر عن المشهد العربي السياسي المعاصر، تنطق بكل دقه وبالتفاصيل عن واقع مازلنا نعيشه، بدليل أن رسوم الفنان ناجي لاتزال تعبر عن حوادث الساعة على رغم رحيله عنا منذ زمن، ورسوم الفنان محمود كحيل تعبر بدقة عما يجري، وكلاهما مع الرفيق الأعلى، وإعادة نشر لوحات علي فرزات وان مرت عليها السنون تعبر عن حوادث وكأنها تجري اليوم، ذاك يعني شيئين إما أن إلهام هؤلاء الفنانين قد فاق التصور، وتوقعوا الآتي قبل أن يحدث، أو وهو الأقرب إلى المنطق، ان العرب في مكانهم (سائرون) إذ تنطبق حوادث الأمس على اليوم وعلى الغد من دون تغيير! المشكلة أن الأجيال العربية الجديدة تشاهد برامج التلفزيون نفسها التي تشاهدها جماهير في سياتل أو كاليفورنيا أو زيوريخ أو طوكيو، وتتأثر بما تتأثر به تلك المجاميع، فهي تخضع للثقافة نفسها وبصورة أسرع وربما أعمق، وتنظر حولها فترى الجمود والسير في المكان، فيحدث هذا التناقض العميق الذي يعبر عن نفسه في ثقافتنا السائدة في بعض الأوقات بشكل مرضٍ!

ما يستحق أن ننظر إليه في ثقافتنا ما تجب مقارنته بما يحدث لديهم في الغرب، وقد حدث في الشهور الأخيرة ما يلفت النظر، فتوم فرانكس كما نعرفه هو قائد أميركي كبير أنيطت به القيادة الوسطى للجيوش الأميركية في (الشرق الأوسط) وخاض الحرب في كل من أفغانستان والعراق أخيرا، هذا ما يعرفه الجميع عنه، إلا أنه قبل أشهر، بالتحديد في الخامس من فبراير/ شباط من العام الماضي أخضع الجنرال الأميركي الكبير للتحقيق وحوكم داخليا بسبب إعطاء زوجته بعض الامتيازات، كأن يكون لها مرافقة (مجندة)! والناس في بلادنا تقرأ هذا وتتفرج حولها فترى الكثير الكثير من الفساد المخل بحياة الناس ومستقبلهم، وتبقى (المجندة المرافقة) بالنسبة إليهم نكتة يرددونها، وأملا غير ممكن التحقيق بان يتوقف الفساد، ولو تم تنسيب مجندة لزوجة ضابط عربي لاعتبر الذي يرتكب مثل هذا النوع من (الأعمال) فقط رجلا مستقيما!

وتأتي الأخبار الأخيرة من بريطانيا لمحاكمة ضابط بريطاني حارب في العراق بتهمة (إساءة أسرى حرب عراقيين بصورة تخرق معاهدة جنيف للأسرى) والضابط هو الكولونيل تم كولنز، الذي أشاد بعمله سابقا ولي العهد البريطاني وحتى الرئيس الأميركي، وكان الإعلان البريطاني يقول (ان التحقيق ضروري للحفاظ على سمعة الجيش البريطاني).

الرهان هنا على النموذج الذي لم يعد للكافة مخبأ أو خلف حجب، فهو في عالم يصغر يوميا، تصبح أخبار مثل تلك خبز وزبد وسائل الإعلام العالمية، ثقافة المحاسبة في حدود القانون عندهم ليست جديدة علينا، ونعرفها منذ أن قال محمد عبده منذ أكثر من قرن من الزمان قولته المشهورة (لقيت في الغرب إسلاما ولم أر مسلمين!) إلى آخر المقولة المشهورة، ربما هي مبالغة من نوع ما، كما أن (الغرب) ليس خالي الوفاض من كثير من الشوائب، إلا أني أتحدث عن ثقافة الثواب والعقاب التي تخضع الجميع للقانون المرعي. الأمل الذي لايزال يراود الجميع في بلادنا الكبيرة بوجود (حكومة القانون لا حكومة الأشخاص)، وهو الفرق الثقافي الأساس بين ما يحدث هنا وما يطبق هناك. وهو الفرق بين التطورات الدولية المتسارعة ووقوف الإقليم العربي معاندا لها وتعاكسا معها، هذا مما أدى، من ضمن أسباب أخرى، إلى أن نرى العراق، بعد أن تخلص من (الوصاية) قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، وفشلت (نخبته) في حكمه، يعود إلى الوصاية الدولية من جديد!

التغيير المطلوب في المشهد الثقافي هو حساب الكلفة البحتة، فإن من الأوفق كما أصبح قناعة لدى دوائر كثيرة في العالم أن اطلاق قوى الديمقراطية أوفر من محاربة الإرهاب، الكلفة في محاربة الإرهاب باهظة وغير مضمونة، اما كلفة الديمقراطية فهي أرخص، وأكثر ضمانا على المدى الطويل، إنها الجدلية القديمة، جدلية (القوة) و(الفكرة) وفي ثقافتنا أكثر الإهانات والذل تطلق ليس على من يطلق الرصاص أو يفجر القنابل أو يسرق أموال الناس، لكنها تطلق على من يطلق الفكرة الصحيحة أو يجهر بالحقيقة العلمية.

أكبر الحماقات في التاريخ العربي ارتكبت في حق أهل الكلام من أهل السلطان، وكل مجتمع يخنق الفكر ينفصل عن عالمه، تلك حقيقة علمية لا جدال فيها، لذلك فان الثقافة المتسارعة والتي تنتشر اليوم هي الداعية إلى الحقوق المتساوية وحق المواطنة وثقافة التسامح

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 267 - الجمعة 30 مايو 2003م الموافق 28 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً