العدد 2305 - السبت 27 ديسمبر 2008م الموافق 28 ذي الحجة 1429هـ

جدلية العنف واللاعنف

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

جدلية استعمال العنف أو الاكتفاء باللا عنف في الحياة السياسية العربية يجب أن لاتنتهي إلى أن تصبح ثنائية أخرى تضاف إلى الثنائيات العربية الشهيرة من مثل العلم مقابل الدين أو القومية في وجه القطرية أو الأصالة في صدامها مع الحداثة. ذلك أن تاريخ الحياة السياسية في شتٍّى بقاع الأرض وعبر مختلف الأزمنة قد أظهر بأن هناك مكانا للاثنين، حسب الظروف ومعطيات الواقع.

فالعنف في ذاته ليس كله شر واللاعنف في ذاته ليس كله خير. والتعامل مع القوى الاستعمارية أو القوى الداخلية الاستبدادية يعتمد على مدى استجابتها لهذا الأسلوب أو ذاك. وإذا وجدت قوى أي مجتمع نفسها أمام قوة استعمارية أو سلطة استبدادية لاتستجيب لنداءات العقل أو متطلبات العدالة فإنّ إلتجاءها للعنف تبٍّرره رسالات السماء والمبادئ الأخلاقية ومنطق الممارسة السياسية الفاعلة.

وبالطبع فالعنف الذي نعنيه هو الاستخدام المشروع للقوة وليس العنف الذي يؤدّي إلى الأذى وإلى التدمير الأعمى لمقومات المجتمع وإمكانياته. وهو الذي يمثٍّل في جوهره الصٍّّّّّراع المفروض بين قوة ظالمة وبين جهة مظلومة تدافع عن نفسها وكرامتها، بل وأحيانا وجودها. والواقع أن المجتمعات لا تلجأ إلى استعمال العنف السياسي إلا في مواجهة عنف آخر متوحش ظالم، كالعنف الاجتماعي الذي قد يمثله مثلا نظام رأسمالي جائر ينهب الثروات ويؤدٍّي بالملايين إلى عار الفقر والتهميش، أو كالعنف السلطوي الذي تمارسه سلطة جائرة تدوس على كرامة الناس وتمنعهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية وتقمع حرياتهم وتنشر اللاعدل واللامساواة في كل أرجاء المجتمع، أو كالعنف الذي تمارسه قوة استعمارية خارجية ضدّ دول أصغر وأضعف منها من أجل مطامع اقتصادية واستراتيجية. وفي الحالات الثلاث السابقة يكمن بيت القصيد ويوجد مربط الفرس.

ذلك أن الأقلام الجاهلة أو المنحازة أو المأجورة تنبري في كثير من الأحيان إلى تضخيم وإدانة كل أنواع العنف التي تمارسها الجماعات كدفاع عن نفسها وحقوقها، وفي الوقت نفسه إلى تبنٍّي كل أنواع العنف المادي والمعنوي الذي تمارسه الحكومات أو الأنظمة الاقتصادية أو القوى الخارجية الظالمة. ولنا خير مثال في الكتبة والإعلاميين والسياسيين الانتهازيين الذين يبرٍّرون ليلا ونهارا، سرا وعلنا، ممارسات العنف الصهيوني في فلسطين المحتلة والعنف الأميركي في العراق وأفغانستان، وعنف العولمة الاقتصادية المتوحٍّشة في المعمورة كلّها وعنف حكومات الاستبداد في الوطن العربي.وهي إذ تفعل ذلك لا تبقي كلمة بذيئة ولا جملة ظالمة إلا وتلقيها في وجوه الأفراد أو الجماعات التي تلجأ مضطرة أحيانا إلى ممارسة العنف في وجه الاحتلال أو في وجه توزيع الثروة الجائر أو في وجه التمييز بسبب العرق أو الدين أو المذهب أو العائلة أو الحزب. وينسى هؤلاء أن العنف الذي يمارسه الضعيف هو في أكثر الأحيان إشهار لرفض عنف مادي ومعنوي ونفسي وبنيوي تفرضه جماعات صغيرة متمكنة، متخمة بالمال والسلاح وعلاقات المصالح المتبادلة مع الخارج والداخل، وذلك على حساب ملايين الفقراء والمهمّشين.

ومع ذلك فإن أساليب اللا عنف الكثيرة، والتي تعدٌّ في أشكالها بالعشرات، بدءا بالاحتجاجات وانتهاء بالعصيان المدني،... أساليب اللاعنف هذه يجب أن تسبق مرحلة الاضطرار إلى استعمال العنف ويجب أن ترافقه وتسير إلى جنبه وتكمٍّله في حالة الاضطرار إلى استعماله.

إن الآية الكريمة التي تقول « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلاُ على الظالمين «هي تجسيد لروح هذا التوجه المتوازن المعقول.

العنف واللا عنف هما أسلوبان مكمّّّّّّّّّلان لبعضهما البعض في فترات تاريخية محددة، وليسا من ثنائيات التضاد العربية العبثية

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 2305 - السبت 27 ديسمبر 2008م الموافق 28 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً