العدد 2305 - السبت 27 ديسمبر 2008م الموافق 28 ذي الحجة 1429هـ

مجزرة غزة... وما بعدها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المجزرة التي ارتكبتها حكومة إيهود أولمرت المستقيلة فاقت كل التوقعات والتصورات. فالضربة الرهيبة التي طالت المراكز والأحياء في وقت واحد تعمدت أن تكون كبيرة وقاسية بقصد إنزال أكبر عدد من الضحايا وإلحاق الأضرار بأوسع المناطق. عنف الهجوم بحد ذاته يشكل رسالة سياسية بالغة الدلالة تبدأ من عقدة التفوق وتنتهي بترسيخ فكرة أن «إسرائيل» قادرة على فعل ما تريد من دون اكتراث للردود التي يمكن أن تتشكل ضدها.

العدوانية الإسرائيلية ليست سياسة جديدة وإنما هي تأسست تقليديا على إيديولوجية عنصرية توسعية تؤمن بوجود تكليف إلهي أعطى الحق بالاستيلاء على الأرض لكونها تعود ملكيتها التاريخية إلى «الشعب المختار». وهذا النوع من التفكير الإيديولوجي يعطي الذريعة للسياسة العدوانية ويغذي عقدة التفوق ويبرر لها شرعية القتل من دون إحساس بالذنب الأخلاقي والمسئولية الإنسانية.

الجانب الإيديولوجي لا يمكن إهماله في إطار محاولة فهم ماذا حصل أمس في قطاع غزة. إلا أن ما حصل فاق كل التوقعات حين لجأت حكومة أولمرت إلى استخدام طاقاتها القصوى لمعاقبة شعب يعيش منذ شهور حالات من الحصار والتجويع والإذلال. وإفراط تل أبيب في اللجؤ إلى استخدام القوة القصوى في توقيت محدد يشكل مادة مستقلة تتجاوز الإطار الإيديولوجي للعقيدة الصهيونية. فالضربة الرهيبة تتعدى الجانب العسكري وتتوجه نحو ترسيم صورة عن جانب آخر يتعلق بالسياسة.

حكومة أولمرت المنهارة استغلت مجموعة عوامل دولية وإقليمية وعربية وفلسطينية لتسديد ضربتها في مكان تعتبره مجرد ساحة مفتوحة ومكشوفة ولا يتمتع بذاك الغطاء الذي يمنع عنها تصريف ذاك الفائض من مخزون التوتر والعنف والشعور بالقوة والتفوق.

العامل الدولي لعب دوره في تسهيل الضربة لأن «إسرائيل» نجحت إعلاميا في تصوير موقعها وكأنها الطرف الضعيف والمستهدف بالصواريخ ولها الحق بالرد. وجاء العامل الدولي الذي يمر في فترة انتظار وترقب، بسبب دخول إدارة جورج بوش «غرفة العناية» قبل أن يخرج من البيت الأبيض، ليعطي تل أبيب ذريعة للانتقام والثأر من دون اكتراث للنتائج وردود الفعل.

العامل الإقليمي شجع بدوره تل أبيب على انتهاز الفرصة لكون الدول الواقعة في دائرة «الشرق الأوسط» منشغلة في تصريف أعمالها الداخلية أو ترتيب أوضاعها الاقتصادية أو تنظيم علاقاتها الدولية. فكل دولة محكومة باعتبارات موضوعية وظروف ذاتية تحد من حرية تحركاتها وتضع حولها أو فوقها مجموعة شروط لا تستطيع تجاوزها من دون ثمن. حتى تلك الدول التي تطلق «الصواريخ الإيديولوجية» لا تمتلك القدرة على التدخل ميدانيا ولا تستطيع أن تترجم أقوالها إلى أفعال بسبب معطيات تتعلق بالضعف الذاتي والعجز عن تأسيس آليات واقعية ترفع الحصار الظالم عن أهل غزة.

العامل العربي أيضا لعب دوره في تعطيل إمكانات التوافق على موقف مشترك يوحد الدول في سياق قومي يضغط باتجاه فك الحصار وتعزيز القدرة الفلسطينية لمواجهة التحدي. تمزق الصف العربي وانشغال البعض في سياسة المزايدات الإعلامية والتصريحات الديماغوجية والاكتفاء بالكلام والتهرب من الواجبات وتحميل الآخر المسئولية ساهم في تجميد أنشطة مؤسسة القمة العربية وتوسيع هامش العدوان ما أعطى فرصة مضاعفة لتل أبيب باستغلال الثغرات والاستفادة من الضعف العربي العام لتوجيه ضربة فاقت في عنفها الدموي كل التوقعات.

إلى تشتت الصف العربي ساهم عامل الانقسام الفلسطيني في تقديم خدمة مجانية للعدوان من خلال إضعاف السلطة ومنافستها على الانفراد بالقيادة ما أدى إلى توسيع دائرة التجاذب الأهلي وحفر خنادق من الكراهية السياسية داخل النسيج الوطني وما يمثله من مراكز قوى ومواقع تقليدية. فالانقسام بين الضفة والقطاع جاء ليصب الماء في طاحونة حكومة تل أبيب التي تعيش لحظة وداعية وتبحث عن ذريعة واهية لتبرير عدوانها ومشروعها التوسعي والاستيطاني.

حكومة أولمرت التي تصرف الأعمال باتت في حكم المنتهية وهي تستعد للانتخابات في فضاءات دولية وإقليمية مفتوحة على متغيرات ومتحولات. فالحكومة التي تلقت ضربة موجعة في حربها على لبنان في صيف 2006 تريد استعادة كرامة تعرضت للامتحان وهي مستعدة للمغامرة لإنقاذ سمعتها من الانزلاق نحو المزيد من الخسائر المادية والمعنوية.

اقتناص الفرصة

العامل الانتخابي الإسرائيلي لعب دوره أيضا في تطوير العدوان على غزة والشعب الفلسطيني بسبب المزايدات الحزبية التي تطلقها آليات التنافس على مقاعد البرلمان (الكنيست). والتنافس على الكراسي يولد دائما شرارات التطرف ويدفع الأحزاب الإسرائيلية إلى التسابق على القتل وتبدأ القيادات تتبارى في طرح الشعارات الإيديولوجية من دون تفكير بالمخاطر والانفعالات والردود. تصريحات زعيم تكتل «الليكود» المعطوفة على تصريحات حزب العمل (إيهود باراك) والمندمجة بتصريحات زعيمة «كاديما» تشكل مجتمعة مظلة إيديولوجية تغطي داخليا كل خطوة ميدانية تقرر تل أبيب اتخاذها بذريعة صد المخاطر المتأتية من «الصواريخ» أو غيرها.

مسألة «الصواريخ» المصنوعة محليا في قطاع غزة ساهمت تل أبيب في تضخيم مخاطرها للظهور أمام الرأي العالمي بمظهر المعتدى عليه، وهي شكلت عناصر حيوية محلية لتحريك الهواجس الإسرائيلية وتحويلها إلى قوة ضغط من الشارع على حكومة أولمرت المتهالكة والمنتهية مدتها. فالصواريخ استخدمتها تل أبيب ذريعة لترويج فكرة الخوف وتحديثها وشحنها بعناصر الغضب ما رفع درجة التوتر وبدأت الأحزاب تتنافس في الضغط وتطالب أولمرت بالرد الصاعق والمرعب. أولمرت لا يحتاج إلى ذريعة ولكنه انتظر بعض الوقت ليعطي حكومته تلك الفرصة بالانتقام من دون رادع أو وازع. فهو من جانب أخذ يتحدث بلغة لطيفة ويرسل إشارات اتصفت بالليونة سواء على المستوى الإيديولوجي حين قال إن مشروع «إسرائيل الكبرى» انتهى وتحول إلى حلم غير واقعي أو على المستوى السياسي حين أبدى استعداده للتفاهم مع دمشق وتوقيع اتفاق سلام معها خلال زيارته الأخيرة للعاصمة التركية. ومن جانب آخر أخذ يستعد لتوجيه ضربة تعيد إليه ماء الوجه.

تأجيل الضربة الرهيبة ضد المراكز والأحياء في قطاع غزة جاء ضمن خطة متدرجة اعتمدت الهدوء وتعمدت الظهور بموقع الضعيف القابل بالتفاوض مع «حماس» لتمديد اتفاق التهدئة والمستعد للسلام مع سورية في سياق تطوير اتفاقات الهدنة معها في الجولان وصولا إلى الانسحاب تحت سقف تسوية «مؤلمة». فالتأجيل تعمدته حكومة أولمرت وكان يستهدف اقتناص الفرصة حتى تنتهي مدة اتفاق الهدنة مع «حماس» في 19 ديسمبر/ كانون الأول الجاري.

حين انتهت فترة الشهور الستة من دون تجديد أو تمديد اعتبرت تل أبيب أن الظرف أصبح مؤاتيا لتسديد ضربة تذكر كل الأطراف المعنية بأن «إسرائيل» لاتزال قوية وقادرة ومستعدة. وما حصل أمس في غزة أكبر من ضربة عسكرية لأن القصد منها كان توجيه رسالة سياسية تريد تعديل التوازن السلبي الذي ارتسمت معالمه خلال العدوان الأخير على لبنان والتأكيد مجددا على عقيدة القوة وعقدة التفوق على الجميع من دون استثناء.

الضربة العسكرية التي تعمدت الإفراط في إظهار القوة تستهدف توجيه رسالة سياسية ترهب القوى الجغرافية المجاورة التي قد تفكر بفتح جبهة تخفف الضغط عن القطاع كما حصل خلال صيف 2006. فالضربة في هيكلها العام إشارة سياسية تريد إحراج كل القوى الرسمية وغير الرسمية العربية وغير العربية ودفعها إلى إعادة التفكير بالقرار حتى لا تستدعي الرد المماثل ضدها على غرار ما حصل أمس من مجازر في غزة.

هذا النوع من الرسائل يحتاج فعلا إلى رد سياسي يرتقي إلى مستوى التحدي الذي أظهرته تل أبيب. والتحدي لا يبدأ إلا من خلال إعادة توحيد القرار الفلسطيني وضبطه تحت معادلة تقرأ جيدا تلك الفضاءات الدولية والإقليمية والعربية التي أخذت ترتسم معالمها في خريطة سياسية تتجاوز حدودها القطاع والضفة. وتوحيد القرار يتطلب إعادة ربط القضية بالمحيط العربي بعد أن أظهرت الوقائع الميدانية رفض تل أبيب الالتزام بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التي نصت عليها الإتفاقات الدولية والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن بشأن العودة وتأسيس دولة مستقلة وذات سيادة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2305 - السبت 27 ديسمبر 2008م الموافق 28 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً