إلى ذلك اختلف علماء التاريخ على مسألة تصنيف الانقسامات. فهناك خلافات فردية، وهناك اختلافات في وجهات
إلا أن هناك ما يشبه الاجماع على أن فترة الخليفة الراشد الرابع شهدت انقسام اول فرقة في الاسلام اتخذت طابعا سياسيا وقالت بظاهر القرآن ورفضت كل ما هو متعلق بالتأويلات والتفسيرات.
اطلق على تلك الفرقة تسمية «الخوارج» وهي ظهرت ابان الصراع على الخلافة بعد موقعة التحكيم في سنة 37 هجرية حين أنكرت النتيجة وطالبت بمعاودة القتال. ورفض امير المؤمنين علي بن ابي طالب (رض) موقفها فانشقت عنه ودخلت معه في معارك ونجح في هزيمتها في موقعة النهروان (نهر قريب من بغداد) في سنة 38 هجرية.
وفي فضاء المشاحنات الأهلية تلك ظهر تيار ثالث رفض الدخول في المعارك واعتزل الفتنة (الاعتزال السياسي) معلنا عدم تأييده لاي فريق. وقاد تيار «الاعتزال السياسي» الصحابي سعد بن ابي وقاص بن عبد مناف. وسعد هو احد العشرة المبشرين بالجنة واحد الستة في مجلس أهل الشورى. جلس سعد في بيته وأمر اهله أن لا يخبروه بشيء حتى تجتمع الأمة على إمام واحد. وانضمت جماعة إلى سعد معتزلة الحياة السياسية وبقى سعد على موقف (اعتزال الفتنة) إلى ان توفي في العقيق (قرب المدينة المنورة) سنة 55 هجرية وقيل 56 أو57 أو58 هجرية.
أسس موقف الاعتزال السياسي فكرة العزلة من خلال رفض الدخول في صراعات تؤدي إلى التشتت والانقسام وطرح مسألة فقهية لها صلة بمعنى «الحياد» وشروطه في لحظة الاختلاف على السلطة او غيرها من مشكلات داخلية (اهلية).
بعض المؤرخين ربط بين موقف سعد (اعتزال الفتنة السياسية) ومواقف المعتزلة (العقائدية) التي ظهرت علنا في مجلس الشيخ الحسن البصري (توفي سنة 110 هجرية). وبعض المؤرخين فصل بين «الاعتزاليين» نظرا للفارق الزمني بين وفاة الصحابي سعد ووفاة الشيخ البصري. فبين الاول والثاني أكثر من نصف قرن جرت خلاله حوادث دموية وصراعات أهلية ترافقت مع فتوحات كبرى امتدت شرقا إلى الصين وغربا إلى اسبانيا.
في ظلال الفتوحات تلك استفحل الصراع الداخلي ووصل إلى ذروته في نهاية عهد يزيد بن معاوية حين رفض عبدالله بن الزبير مبايعته. وتوسعت حركة الزبير في المدينة المنورة بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي (رض) في موقعة كربلاء (61 هجرية) فدعا لنفسه وانحاز إليه الكثير من الجماعات... ارسل يزيد جيشه إلى المدينة بقيادة مسلم بن عقبة سنة 63 هجرية. فانتفضت مكة المكرمة فتوجه إليها الجيش الاموي بقيادة الحصين ابن نمير ودخلها بعد قصفها بالمنجنيق فتصدعت جدران الكعبة المشرفة واندلعت النيران في اركانها وكسوتها في سنة 64 هجرية.
وخلال المعارك جاء خبر وفاة يزيد بن معاوية فانسحب الجيش قبل القضاء على ثورة عبدالله بن الزبير. وتجدد الصراع في عهد معاوية بن يزيد بن معاوية واستمر إلى حين تولي عبدالملك بن مروان فارسل جيشه بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي فدخل المدينة وحاصر مكة وقذفها بالمنجنيق فتصدعت جدران الكعبة مرة اخرى. وبعد مقتل الزبير تم إعادة بناء الكعبة في سنة 73 هجرية. وتجدد الصراع في نهاية عهد الوليد بن عبدالملك فحصلت فتنة في الكوفة استشهد خلالها احد الأئمة الاعلام سعيد بن جبير في سنة 95 هجرية.
في هذا الجو المشحون بالاضطراب الداخلي عاد فكر الاعتزال السياسي للظهور مجددا.
وبدأ العلماء يميلون إلى مسألة الحياد او اعتزال الفتنة. وكان من هؤلاء الحسن البصري. عاش البصري 89 سنة، وكان يكتب للربيع بن زياد في خراسان، وكتب ايضا لأنس بن مالك في نيسابور نحو ثلاث سنين. بايع ابن الاشعث في ثورته، ولما هزم ابن الاشعث طُلب اصحابه للتحقيق ومنهم الشيخ البصري. ودخل البصري على الحجاج بن يوسف فعاتبه الاخير وأمنه، إلا ان البصري لم يثق بناحية الحجاج فتوارى إلى ان مات.
قبل موت الحسن البصري (ابا سعيد) وقع حادث اتخذه المؤرخون لاحقا موعدا زمنيا لانطلاق حركة المعتزلة في صيغتها الايديولوجية (العقائدية). والحادث يقول إن واصل بن عطاء (مؤسس الحركة) كان من حلقة الشيخ حسن واختلف معه على مسألة «منزلة بين منزلتين» فترك واصل زاوية شيخه واعتزل مع أصحابه في زاوية اخرى من المسجد. فاطلق عليهم لقب «المعتزلة».
يرفض ابن النديم في كتابه «الفهرست» ان يربط توقيت نشوء حركة الاعتزال بأيام الحسن البصري ويرجع قول ابي بكر بن الاخشيد «أن ذلك اسم حدث بعد الحسن». والسبب «أن عمرو بن عبيد» لما مات الحسن، وجلس قتادة مجلسه، فاعتزله عمرو ونفر معه، فسماهم قتادة المعتزلة». ووافق عمرو على التسمية لان الاعتزال برأيه «وصف مدحه الله في كتابه». وينقل ابن النديم عن البلخي (وهو من كبار حركة المعتزلة) قوله ان «اول من تكلم في القدر والاعتزال، ابو يونس الاسواري، رجل من الاساورة، يعرف بسنسويه، وتابعه معبد الجهني ويقال إن سليمان بن عبدالملك تكلم فيه».
ونقل صاحب «الفهرست» عن محمد بن شداد صاحب ابي الهذيل العلاف قوله «اخذت هذا الذي أنا عليه من العدل والتوحيد، عن عثمان الطويل». والطويل هو استاذ العلاف وصاحب طريقة في الاعتزال.
ويميز الشهرستاني في الجزء الاول من كتابه «الملل والنحل» جماعة من المعتزلة وهي «من المعتزلين المتوسطين» مثل ضرار بن عمرو، وحفص الفرد، والحسين النجار عن جماعة «من المتأخرين خالفوا الشيوخ في مسائل، ونبغ منهم جهم بن صفوان في ايام نصر بن سيار». وقتل جهم في آخر عهد بني أمية في مرو على يد سالم بن أحوز المازني.
إذن هناك اختلافات في مسألة توقيت ظهور حركة المعتزلة ومؤسسها وأسباب تأسيسها. ففي الامر وجهات نظر كثيرة اختلف المؤرخون عليها قديما وحديثا. مثلا يرى الباحث المصري نصر حامد ابو زيد ان انعزال واصل بن عطاء عن حلقة شيخه الحسن البصري هو محاولة «للتوفيق بين قوى المعارضة وخلق جبهة موحدة ضد حكم الامويين رابطا قيام المعتزلة بالصراع على السلطة ورفضها التمييز بين العرب والموالي».
ويتوافق تحليل الباحث العراقي رشيد البندر مع رأي نصر حامد ابو زيد حين ربط المعتزلة بالموالي ويرى «ان الفرقة القدرية التي يمثلها معبد الجهني وغيلان الدمشقي كانت القاعدة التي انبنت عليها افكار ونظريات المعتزلة في خضم الصراعات الاجتماعية الجارية في الخلافة الاموية»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 266 - الخميس 29 مايو 2003م الموافق 27 ربيع الاول 1424هـ