عندما صدر القانون رقم 47 بشأن تنظيم الصحافة والطباعة والنشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، قوبل هذا القانون بحملة واسعة من الاحتجاج من قبل الصحافيين والكتاب والجمعيات السياسية وجمعية حقوق الإنسان وجمعية الشفافية والمحامين والحقوقيين وشملت هذه الاحتجاجات الكتابة في الصحف واقامة الندوات والمحاضرات، واصدار البيانات.
واعتبر المحتجون على إصدار هذا القانون انه جاء في الكثير من مواده نسخة طبق الأصل من القانون رقم 14 للعام 1979 في شأن المطبوعات والنشر، بل انه في بعض الاحيان وبعض الموضوعات جاء أكثر تضييقا على الحريات وأشد عقوبة من قانون 79 الذي صدر بعد ان اجهضت التجربة الديمقراطية الوليدة في البحرين، وبعد أربع سنوات من تطبيق قانون أمن الدولة (الطوارىء) وحمل الكثير من سماته وتوجهاته.
كما اعتبر المحتجون والأوساط الصحافية والسياسية والحقوقية كافة أن قانون 1979 وقانون 2002 ينطلقان من مفاهيم واحدة هي ان كل من يعمل او يتعامل مع وسائل النشر والاتصال مشكوك فيه، وفي الآراء التي يحملها والنوايا التي يعبر عنها، والتصرفات التي يأتي بها، وان هذا الشك يندرج في اطار الولاء للحكومة وليس للدولة، وفي اطار الشك في اخلاصهم وفي وعيهم وفهمهم لطبيعة وتطورات الأمور العامة، وانهم بذلك مثل الاولاد القصر الذين لابد من الاشراف على تصرفاتهم وتوجههم ومعاقبتهم على كل ما يعتبره أولياء الامور أخطاء أو مخالفات أو حتى نوايا سيئة.
وبالتالي فان هذين القانونين يعتبران المنع والعقوبة والرقابة المسبقة واللاحقة، والحصول على الموافقات الحكومية - المزاجية - على كل صغيرة وكبيرة هي الأساس، وهي القاعدة التي ينطلق منها القانون ويعتمدها في اصدار احكامه، ولهذا سمي القانونان تندرا بقانوني الممنوعات بدلا من المطبوعات، وكذلك الرديف لقانون العقوبات.
واعتمدت الاحتجاجات على قانون (47) للعام 2002 على انه صدر بعد عامين من بدء مرحلة الاصلاحات السياسية وبناء المجتمع الديمقراطي، وبعد 9 شهور من صدور الدستور الجديد الذي كفل حرية الرأي والتعبير، وأكد حرية الصحافة، والحريات الاخرى المكملة أو المتكاملة مع حرية التعبير وحقوق الانسان، مثل حق التجمع وحق تأسيس الجمعيات والنقابات. وبالتالي فان هذا القانون يأتي متناقضا مع هذه التطورات والحقوق وان صدوره بهذا الشكل والمضمون السالب والمقيد للحريات يعتبر تراجعا عن الاصلاحات السياسية والديمقراطية.
ولم يكد يمضي شهر على هذا النقد الذي وجه إلى قانون 2002 حتى استجابت الحكومة له بتصريح لرئيس الوزراء أعلن فيه تجميد تطبيق القانون المذكور حتى تتم اعادة النظر فيه من قبل لجنة تمثل فيها الحكومة وأصحاب الصحف وجمعية الصحافيين، لكن وزير الإعلام سرعان ما أعلن ان القانون سيبقى ساري المفعول ريثما تجرى اعادة النظر فيه ويتم اقرار صيغة جديدة له.
ومع ان اللجنة المذكورة عقدت أكثر من اجتماع، وتلقت الحكومة ملاحظات الصحافيين على القانون، فان القانون ظل ساري المفعول، وتم تطبيقه في حال واحدة على الأقل عندما رفعت وزارة الاعلام قضيتين على صحيفة «الوسط» تتهمها بمخالفة القانون المذكور وتطالب بمعاقبتها بحسب نصوصه.
وقبل حوالي شهر تم الكشف عن مشروع قانون معدل للقانون (47) للعام 2002 قيل انه سيعرض على مجلس الوزراء، ومن ثم يحال الى مجلس الشورى والنواب لمناقشته واقراره، غير ان الواقع المقارن بين قانون 2002 ومشروع القانون الجديد يدل على ان تغييرا أساسيا وذا أهمية لم يجر على القانون الاصلي، وان ما حدث هو اعادة صوغ وتدوير المواد والمضامين. واحيانا دمج المواد، غير ان مشروع القانون المعدل حافظ على المفاهيم نفسها التي بنى عليها القانون الأصلي من حيث الشك والمنع والرقابة السابقة واللاحقة، والحد من حرية التعبير ومخالفته لمواد الدستور والمبادئ الديمقراطية، بل ان القانون في اطاره العام وفي نصوصه وتعبيراته وعقوباته بقي كما هو، ما يدل على ان الحكومة التي تعتبر امتدادا لمرحلة قانون أمن الدولة بقيت متشبعة بروح هذا القانون ومصرة على السير على نهجه، وبالتالي فانها ترفض التكيف مع النهج الديمقراطي والاعتراف بحقوق الإنسان.
ومن التعميم إلى التفصيل، فان مشروع القانون المعدل، وكذلك قانون 2002 وقانون 1979 كلها نصت على مجموعة من القيود والممنوعات ليس بالنسبة إلى الصحافة فحسب وانما بالنسبة إلى المطابع ودور النشر والتوزيع، ومكاتب استطلاع الرأي والاعلان والمكتبات ومحلات بيع التسجيلات السمعية والفيديو ودور السينما وكل وسائل الاتصال وصناعة المعلومات أو بالأحرى كل مجالات حرية الرأي والتعبير.
وفي حين نصت المادة (6) من القانون على ان «الصحافيين مستقلون لا سلطان عليهم في أداء عملهم لغير القانون» فان هذا القانون يقول ايضا في المادة (9): «يحظر فرض اية قيود تعوق تدفق المعلومات أو تحول دون تكافؤ الفرص بين مختلف الصحف في الحصول على المعلومات، أو يكون من شأنها تعطيل حق المواطن في الإعلام والمعرفة، وذلك كله من دون اخلال بمقتضيات الأمن الوطني والدفاع عن مصالحه العليا».
وهكذا نسفت العبارة الثانية كل ما ورد في العبارة الأولى من كلام جميل... وضمن هذه القيود والممنوعات، فمن واجبات الصحافي أن يلتزم فيما ينشره بالمبادىء والقيم التي يتضمنها الدستور وبأحكام القانون، وان يراعي في كل اعماله مقتضيات الشرف والامانة والصدق وآداب المهنة وتقاليدها بما يحفظ للمجتمع مثله وقيمه، وبما لا يمس حريات المواطنين أو ينتهك حقا من حقوقهم، (المادة 14)، أما المادة (17) فتقول «لا يجوز للصحافي أو لغيره ان ينشر ما من شأنه المساس بالآداب العامة أو التعرض لكرامة الأشخاص أو حياتهم الخاصة، كما لا يجوز له ان يتناول مسلك الموظف العام أو الشخصي ذي الصفة النيابية أو المكلف بخدمة عامة الا اذا كان التناول ذا صلة وثيقة بأعمالهم ومستهدفا الصالح العام».
ومن هذه القيود «يحظر على الصحيفة تناول ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكمة، أو بما يؤثر على صالح التحقيق أو المحاكمة أو بما يؤثر على مراكز من يتناولهم التحقيق أو المحاكمة» ويحظر على الصحيفة ايضا «نشر أية معلومات أو ايضاحات أو بيانات عن الاتصالات السرية الرسمية والأمور العسكرية التي ينبغي أن تظل سرية بطبيعتها أو التي صدر بشأن سريتها أنظمة خاصة».
«ويحظر على الصحافي او الصحيفة قبول تبرعات أو إعانات أو مزايا خاصة من جهات أجنبية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة».
كما يحظر عليها «نشر أي اعلان تتعارض مادته مع قيم المجتمع وأسسه وآدابه العامة أو مع رسالة الصحافة وأهدافها» وبالطبع فان الحكومة ممثلة في وزارة الاعلام هي التي تعرف وحدها مضامين وأبعاد هذه القيود والممنوعات.
وفي إطار المحظورات والتراخيص ينص القانون القديم - الجديد على انه «لا يجوز اصدار صحيفة الا بترخيص من الوزير وبعد موافقة مجلس الوزراء» وانه يشترط لمنح ترخيص اصدار صحيفة يومية ألا يقل رأس مالها المدفوع عن مليون دينار بحريني (2,5 مليون دولار) وأن يصدر الوزير قرارا في شأن طلب التراخيص خلال مدة لا تتجاوز 45 يوما من تاريخ تقديمه، ويعتبر انقضاء المدة المذكورة من دون البت في طلب الترخيص بمثابة موافقة ضمنية على الترخيص كما يجب ان يكون الرفض مسببا، ولطالب الترخيص الطعن في قرار الرفض أمام المحكمة الكبرى المدنية خلال 30 يوما من تاريخ إخطاره بالقرار... اي ان القانون اعطى الحكومة قرار الموافقة على اصدار الصحف وفق مزاجها، كما وضع مبلغ المليون دينار قيدا مضاعفا لهذه الموافقة، اما القيد الآخر فهو موافقة مجلس الوزراء. واستكمالا للقيود: «فعلى المرخص له في اصدار صحيفة ان يودع خزينة الوزارة ضمانا نقديا أو مصرفيا لا يقل عن 5 في المئة من رأس المال المدفوع، وان يمسك سجلات منتظمة يثبت فيها حسابات الصحيفة، ويصدر قرار عن الوزير بنظام هذه السجلات وكيفية الرقابة عليها».
وكما هو الحال مع الصحف «يجب على كل من يرغب في انشاء مطبعة ان يحصل على ترخيص بذلك من الوزارة قبل مزاولة أي عمل فيها، ويكون لكل مطبعة مدير مسئول يتولى شئونها ويتحمل مسئولية أية مخالفة ترتكب فيها وتسري هذه الشروط على كل من يرغب في انشاء مطبعة أو دار نشر أو توزيع أو لقياس الرأي العام أو للترجمة أو مكتب صحافي أو للدعاية والاعلان أو وكالة أنباء...».
ويجب على الطابع «ان يمسك سجلا يدون فيه بالتسلسل عناوين المطبوعات المعدة للنشر واسماء أصحابها وعدد النسخ المطبوعة منها وتاريخ طباعتها، وللسلطات المختصة - وزارة الاعلام - الاطلاع عليها عند الاقتضاء، وعلى الطابع ايضا ان يودع 3 نسخ من كل مطبوعة لدى ادارة المطبوعات بالوزارة، ونسختين لدى المكتبة العامة، ونسختين من كل مطبوع يتعلق بالأمور الدينية لدى وزارة الشئون الاسلامية، ويجب على الطابع قبل اصدار اي مطبوع دوري ان يخطر ادارة المطبوعات بذلك كتابيا، وعلى الطابع ايضا قبل طباعة اي مطبوع لهيئة أو جهة خارجية أو أجنبية أو فرد أجنبي ان يحصل على إذن مسبق بذلك من الادارة، وتصدر الادارة قرارها في طلب الاذن خلال سبعة ايام من تاريخ تقديمه، ويعتبر انقضاء هذه المدة من دون البت في الطلب بمثابة رفض ضمني له» ترى هل يطبق هذا القيد على الأميركان؟.
وكما رأينا بالنسبة إلى المطبعة أو الطابع، فان الامر ينسحب على الناشرين والمستوردين وكل من يتولى تداول المطبوعات من حيث ايداع النسخ لدى الوزارة، وبالاضافة إلى ذلك فانه يجوز للوزير ان يستصدر أمرا من قاضي الامور المستعجلة بمنع تداول اي مطبوع أو دخوله الى البلاد اذا شكل مضمونه او نشره - بحسب رأي الوزير - جريمة يعاقب عليها القانون.
ومن المطبوعات الى الأفلام، اذ ينص القانون على انه «لا يجوز عرض اي فيلم أو اشارة إلى فيلم أو اعلان تجاري بصورة سينمائية في دور السينما قبل الترخيص بعرضه من لجنة مراقبة الأفلام السينمائية والمطبوعات المسجلة.
وتصدر اللجنة المذكورة قرارا مسببا في طلب الترخيص بعرض الفيلم خلال 15 يوما من تاريخ عرض الفيلم ولها ان تقرر حذف المشاهد التي تتضمن المساس بالمصلحة العليا للدولة او بالمقومات الاساسية، للمجتمع أو بمبادئ الدين والأخلاق أو الآداب ويعتبر انقضاء المدة المشار اليها من دون البت في طلب الترخيص بمثابة رفض ضمني له.
ومن يرفض طلبه يحق له أن يطعن امام المحكمة الكبرى خلال 30 يوما من تاريخ ابلاغه بالقرار وللوزارة أن تصدر إلى أصحاب دور السينما أو المسئولين عن ادارتها التعليمات والتوجيهات التي تستهدف الحفاظ على مستوى البرامج السينمائية من النواحي الدينية والقومية والخلقية والفنية ورعاية الآداب العامة في هذه الدور.
وكأن البحرين هوليوود في انتاج وتوزيع الأفلام وكأن اصحاب دور السينما لا يفهمون طبيعة التقاليد والعادات على رغم ان عمر هذه الدور قد تجاوز 65 عاما، ولأن الحكومة هي التي تفهم وهي الموثوق بها (من قبلها بالطبع) فقد نصت المادة (85) من القانون على «لا تسري احكام هذا القانون على المطابع التي تملكها الدولة، أو المطبوعات الصحافية وسائر المطبوعات التي تصدرها الوزارات المختلفة واداراتها والمؤسسات والهيئات التابعة لها ولا على المطبوعات الصحافية المدرسية والجامعية والكتب والمطبوعات والنشرات التي تصدرها أو تستوردها الحكومة لأغراض المدارس.
واستكمالا لحلقة التضييق والتقييد نصت المادة (20) من القانون الجديد على انه «يجب على الصحيفة ان تنشر من دون مقابل ما ترسله وزارة الاعلام اليها من البلاغات المتعلقة بالمصلحة العامة أو المتصلة بمسائل سبق نشرها في الصحيفة وذلك في أول عدد يصدر في الموضع المخصص للاخبار المهمة.
وأهم ما تؤكده هذه المادة هو ان الصحافة في البحرين كانت عبر كل قوانين المطبوعات ومازالت تفتقد الاستقلالية في الموقف والرأي وتتسم بالتبعية للحكومة. هدفها تلميع ما يصدر عن الحكومة ونشرها للأخبار والتصريحات والقرارات الحكومية باعتبارها انجازات مهمة في الوقت الذي تطمس فيه الأخبار والتطورات الحكومية السلبية او تلك الناقدة لفشل الحكومة في معالجة القضايا الحياتية للمواطنين ولمواكبة التطورات الديمقراطية وعلى رأسها منح الصحافة المزيد من الحرية والاستقلالية والتعامل مع الجميع بالمزيد من حرية التعبير والشفافية.
لقد عانت الصحافة البحرينية ومنذ صدور قانون المطبوعات للعام 1979 من فقدانها الاستقلالية ومن اجبار الحكومة لها - اما باسلوب الأوامر كما هو واضح من المادة (20) - بأن تكون تابعة لها ملبية لرغباتها، واما بتحكمها وشمولها الموافقة على ترخيص الصحيفة بالموافقة على تعيين رئيس التحرير ومدير التحرير أو ما يسمى في القانون بالمحرر المسئول، هذا التحكم جعل الحكومة تتخلى عن شرط أساسي يتمثل في ان يكون رئيس التحرير من الصحافيين الذين تدرجوا في المهنة حتى وصلوا إلى أعلى سلمها وبالتالي أصبح مؤهلا لكي يكون رئيس تحرير ناجحا وفي المقابل جعل رئيس التحرير الدخيل على الصحافة والقادم إليها بكرم وعطف من الحكومة أن يقبل بالولاء لولية نعمته والتبعية للجهة التي أعطته الكثير من المكانة والنفوذ والامتيازات التي لا يستحقها. وليت القيود تقف عند هذا الحد، بل تمتد أيضا إلى المطبوعات التي تصدرها البعثات الدبلوماسية والقنصليات الأجنبية المعتمدة لدى مملكة البحرين والتي يتم الترخيص لها من قبل وزير الاعلام ووزير الخارجية معا إلا أنه يحق للوزيرين إلغاء الترخيص لهذه المطبوعات في «حال مخالفة أي حكم من أحكام هذا القانون» أي إن الإلغاء يتم بقرار ومزاج إداريين مع ان الترخيص اشترط المعاملة بالمثل...
وتمتد هذه القيود الإدارية إلى لجنة تأديب الصحافيين التي يعاد تشكيلها كل ثلاث سنوات والتي يصدر بتشكيلها وإجراءات عملها قرار من وزير الاعلام مع أن القانون نص على أن يرأسها قاض يرشحه المجلس الأعلى للقضاء وعضوية ثلاثة من جمعية الصحافيين وعضو يختاره الوزير وهذا مما يعتبر تدخلا إداريا في لجنة لها الصبغة القضائية المستقلة.
وتواصل امتدادها إلى مراسلي الصحف ووكالات الأنباء إذ تنص المادة (63) على أنه «لا يجوز لمراسلي الصحف أو المجلات أو وكالات الأنباء والإذاعات الأجنبية ممارسة عملهم في مملكة البحرين قبل الحصول على ترخيص من الوزارة ويكون الترخيص لمدة سنة قابل للتجديد ويعاقب على مخالفة هذا الحظر بغرامة لا تتجاوز ألف دينار، بل أكثر من ذلك فللإدارة أن تنذر مراسل الصحيفة أو مندوب وكالة الأنباء الأجنبية إذا تبين أن الأخبار التي نشرها تنطوي على مبالغة او اختلاق او تضليل وتشويه فإذا تكرر منه ذلك جاز سحب الترخيص الممنوح له بقرار مسبب من الوزير.
وبعبارة أخرى فمهمة مندوب الصحيفة أو وكالة الأنباء هي تلميع الحكومة وتضخيم انجازاتها وإلا فقرار المنع والفصل الإداري جاهز وكذلك المبرر المطاط والقابل للتأويلات والإدانات كافة... ونصوص هذه المواد هي امتداد لما ورد في القوانين السابقة للصحافة من مواد مشابهة أدت في كل الأوقات إلى توتير العلاقة بين وزارة الإعلام من جهة ووكالات الأنباء ومحطات الاذاعة والتلفزيون والصحف الخارجية التي فرض عليها ان تتخلى عن مندوبيها في البحرين لأن الوزارة لا يعجبها ما يبعثون به من أخبار إلى الجهات التي يعملون لحسابها، كما أن تلك الجهات رفضت دائما تعيين مندوبين بدلاء بناء على ترشيح من وزارة الاعلام أو قبولها، ما يعتبر تدخلا في إرادة تلك الجهات الاعلامية، ومسا لاستقلاليتها ونزاهتها. وأخيرا، وبالانتقال من المحظورات والقيود إلى جانب العقوبات، نجد أن مشروع قانون الصحافة للعام 2003 قد سار على نهج القانونيين السابقين، أولا في معاملة الصحافي مجرما سيئ النية ومتآمرا، وليس مبدعا ومفكرا سلاحه الكلمة ووسيلته الاقناع وهدفه الاصلاح والتطوير، ويتضح ذلك من خلال إعادة تأكيد القانون الجديد عقوبة الحبس في المادة (46) التي تقول: «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر كل من نشر ما يتضمن التحريض على قلب نظام الحكم أو تغييره»، والمادة (47): «يعاقب بالحبس كل من نشر ما من شأنه التعرض لشخص عاهل البلاد بالنقد، تلميحا أوتصريحا بالكلمة أو بالصورة»، وكما هو الحال مع ما قد يعني التحريض على قلب نظام الحكم أو تغييره من تكهنات وتأويلات، فإن انتقاد الملك بالتلميح يحتمل الكثير من التأويل والاستغلال والترهيب، بل وافتراض وجود الرغبة والسابقة لدى الصحافيين بمثل هذا التلميح».
وتتجلى المبالغة في عقوبة الحبس فيما نصت عليه المادة (48) من أنه «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تتجاوز خمسة آلاف دينار أو باحدى هاتين العقوبتين، المرخص له بإصدار صحيفة ورئيس تحريرها والمحرر المسئول والطابع والناشر إذا ما استمروا في إصدار الصحيفة، باسمها أو باسم آخر، بعد صدور حكم قضائي نهائي بتعطيلها أو إلغائها».
فهل تستحق هذه المخالفة هذه العقوبة القاسية وعلى كل هؤلاء الخمسة بالجملة.
علما بأن معظم الاحتجاجات على قانون الصحافة للعام 2002 قد تركزت على عقوبة الحبس، وعلى المطالبة بالغائها من القانون لأنها لا تتناسب مع المكانة التي يتمتع به الصحافيون والكتاب، ولا تتوافق مع وسيلة الصحافي في التعبير عن رأيه بالكلمة.
وانه إذا ما وجدت الحكومة انها بحاجة إلى الحد من انطلاقة الكلمة وتقليل تأثيرها فلتلجأ إلى أساليب عقاب أخرى مثل التوقيف المؤقت عن العمل أو الغرامة، لكن الحبس عقاب مهين للصحافي ومرفوض مهما تكن الأسباب والذرائع، وانها - أي الحكومة - قد أوقعت عقوبة الغرامة بآلاف الدنانير على من امتنع عن نشر التصحيح، ومن نشر أية أنباء من شأنها أن تؤثر في قيمة العملة الوطنية أو بلبلة الأفكار عن الوضع الاقتصادي أو نشر إفلاس تجار أو محال تجارية وصيارفة، ومن نشر أسرار عسكرية، وغيرها من المحظورات والممنوعات وهي كثيرة في هذا القانون».
وأخيرا فقد جاء مشروع القانون هذا بمبدأ غريب ومنسوخ من القوانين السابقة، ألا وهو تحمل العقوبة التضامنية بين المحرر أو الكاتب بالصحيفة من جهة ورئيس التحرير من جهة ثانية، بحيث يشترك الاثنان في تحمل عقوبة الحبس أو الغرامة، علما بأن هذه العقوبة الشاملة مخالفة صريحة لنص في الدستور الذي يؤكد أن العقوبة شخصية، وبالتالي فإن المخالفة التي يرتكبها الصحافي أو الكاتب في صحيفة ما يجب ألا تشمل رئيس التحرير، الذي هو شخص آخر، ذلك أن تحميل رئيس التحرير المسئولية عما نشره الصحافي العامل بالصحيفة الهدف منه ترهيب رئيس التحرير حتى يمارس رقابة ذاتية صارمة على محرري الصحيفة، وبما يعني أنه برقابته تلك يحمي نفسه قبل أن يحمي الآخرين من طائلة العقوبات، تماما كما كان الحال مع رقيب وزارة الاعلام الذي كان يشدد مراقبته المسبقة لما ينشر في الصحف بهدف حماية نفسه من غضب وعقاب الوزير إذا ما أفلتت منه كلمة اعتبرت نقدا أو ذما للحكومة.
وخلاصة القول إن مشروع قانون الصحافة الذي نحن بصدده ومعه القوانين المماثلة السابقة. وكذلك معظم قوانين الصحافة في الدول العربية، كلها تنطلق من الخوف من قوة الكلمة وتأثيرها. وانها تجسد هذا الخوف في فرض القيود على حرية الرأي والتعبير والابداع، ومنع تدفق المعلومات وشيوع الشفافية، والحد من بروز الرأي الآخر، واتساع مساحة الحريات في ظل مجتمع ديمقراطي يحترم ويحمي حقوق الإنسان.
غير أن الذي على هذه الحكومات الضعيفة والمتوجسة أن تفهمه هو أن هناك وعيا متعاظما لدى كل من يحمل سلاح الكلمة ويعرف قيمتها وقوتها بأن حرية التعبير هي أساس الديمقراطية، وانه لا ديمقراطية من دون حرية تعبير، ولا حقوق إنسان من دون حق التعبير بكل أشكاله.
وان الذين عملوا وضغطوا من أجل تغيير قانون 1979 ومن ثم قانون 2002 الذي حلّ محله بعد أن وجدوهما مكبلين للحريات، هؤلاء قادرون على مواصلة العمل من أجل اسقاط أو تغيير مشروع قانون 2003 وبما يتوافق مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان
العدد 266 - الخميس 29 مايو 2003م الموافق 27 ربيع الاول 1424هـ