فجأة وبما يشبه هبّة واحدة منسقة، رفعت أطراف «المعارضة العراقية» أصوات التأفف والتذمر، في اليومين الأخيرين من الاحتلال وتعاطيه الملغوم مع الأوضاع، من جوانبها كافة. أخذت عليه «تقصيره» (!) ومماطلته في «تسليم السلطة» ومحاولته فرض «وصاية» على العراق، فضلا عن أنه نكث بوعده فتحول من قوة «تحرير» (!) إلى قوة احتلال. والملفت أن بعض هذا الكلام صدر عن أقرب المقربين العراقيين من واشنطن وأشدّ المراهنين على ورقة قوتها العسكرية لإجراء التغيير بالاحتلال.
هل في الأمر بداية صحوة وسقوط لأوهام مراهنة خاطئة - أو بالأحرى مدمرة - ولو بعد خراب البصرة؟ أم أن التذمر هذا لا يعدو كونه محاولة بائسة من جانب المعارضين لتذكير الاحتلال بحضورهم على الساحة، بعد أن تجاهلهم ورمى بهم جانبا منذ احكام قبضته على البلد؟
كيفما كانت الحال، الثابت أن الاحتلال بدأ يكشف عن حقيقته بأنه قوة استعمار جديد مباشر، وبأنه لا يقبل بأية شراكة معه، دولية كانت أم محلية، وهذا أقصى ما يحتمله قرضاي - وإذا تعذر فقرضايات - عراقي. فمنذ سقوط بغداد وإدارة الرئيس بوش تتصرف في إطار هذا التوجه. تعثرت في البداية، فاستبدلت الأدوات والخطط. لكن ليس الاستراتيجية، التي كانت أولى حلقاتها في الحرص على وضع العراق في حال انعدام الوزن. وقد تجلّى ذلك في ترك الحبل على غاربه، كي تستشري الفوضى ويدب الفلتان والتسيّب، بحيث تصبح الأولوية للمطلب الأمني وليس لمطلب ازالة الاحتلال. وقد تحقق ذلك إلى حد بعيد، في الأسابيع الأولى من وضع اليد على العراق. الأمر الذي وفّر للاحتلال مساحة زمنية لتثبيت ركائزه والامساك بخيوط الوضع الداخلي.
رافقت ذلك وصبّت في المجرى نفسه عملية الهاء الساحة باستبدال حاكم بآخر. ذهب عسكري متقاعد وجاء دبلوماسي متقاعد. ومع مجيء الثاني توالى مسلسل التخدير تماما كما حصل مع السلطة الفلسطينية. وكان ذلك عبر التلويح بالتحضير لنقل السلطة إلى «حكومة انتقالية» عراقية ثم التراجع عنه. ثم العودة إليه من جديد، مع تذبذب مماثل بخصوص عقد مؤتمر وطني للقوى العراقية. ساعة تحدّد موعده. وساعة جرى تأجيل الموعد. وفي النهاية كشف الجانب البريطاني أن مثل هذه الانتقال غير وارد في المستقبل المنظور وبما يفيد بأن العراقيين لم يبلغوا بعد سن الرشد السياسي لحكم أنفسهم بأنفسهم! وفي الوقت ذاته عاد وانتعش الحديث عن الخيار الفيدرالي المطروح منذ البداية بمباركة أميركية. وكي يكتمل المشهد الاحتلالي سارع الحاكم الجديد المتخرج في مدرسة كيسنجر والمحسوب فكريا على خندق المحافظين الجدد في أميركا، إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجويف هيكل الدولة العراقية من مؤسساته، بحيث تتسنى إعادة تركيبه بما يتلاءم مع إطالة أمد الاحتلال، ولاحقا مع ربط العراق بمنظومة الاجرام التي تدور في الفلك العراقي. فقام بحلّ الجيش العراقي وحزب البعث وعدد من الوزارات ومنع الحزبين من العمل في القطاع العام... والحبل على جرّار المزيد من الممنوعات والمحظورات اللاحقة التي تجعل من العراق في آخر النهار مجرد عقار تملكه الولايات المتحدة وتتمتع بكامل حقوق التصرف فيه وفي سكانه. أما حديثها عن الديمقراطية والتعددية والتحرر فلا يسري على غنيمتها الجديدة. ولتأكيد هذه الملكية والاستفراد بها استصدرت من مجلس الأمن القرار 1483 الذي «قونن» لها الاحتلال وأطلق يدها للتصرف بشأنه كما تراه مناسبا لمصالحها، هي وحليفتها «إسرائيل». وبهذا القرار أصبحت الأمم غير متحدة إلا بالرضوخ للمشيئة الأميركية. حتى ولو كانت هذه المشيئة متناقضة تماما مع وظيفة المنظمة الدولية ودورها والغرض الأساسي الذي أنشئت من أجله: أن تكون الحارس الأمين والمرجعية الأولى والأخيرة للقوانين والقرارات الدولية التي تحظر العدوان وتعاقب المعتدين. وإذا كان المجتمع الدولي قد تفهّم عموما عجز الأمم المتحدة عن انزال العقاب في معظم الأحيان بالمعتدي، مثل «إسرائيل» وللأسباب المعروفة، فإنه لا يفهم - ولو أنه ابتلع - كيف يمكن لهذه الهيئة أن تمنح الشرعية لاحتلال سافر لا يختلف اثنان على تصنيفه في هذه الخانة.
لكن على ما يبدو العين بصيرة واليد قصيرة. أو بالأحرى يظهر أن الوضع الدولي قد قرر ألا يكتفي بالتسليم بزعامة أميركا وتفوقها بل أيضا بالاستسلام لها، وحتى لاحتلالها والذهاب إلى حدّ تطويبه باسمها، كما فعل في قراره 1483. وربما كان في ذلك عبرة بليغة، للعراقيين كما للعرب الذين استقالوا باكرا وغابوا تماما عن موضوع الاحتلال للعراق، وهي أنه ما حكّ جلدك غير ظفرك. كما فيه إدانة لأطراف المعارضة العراقية التي وضعت كل البيض في السلة الأميركية وروّجت لمقولة ان الإدارة الأميركية لا تنوي احتلال العراق بل تحريره. فها هو تململها اليوم من الوجود العسكري على أرضها ولم يمض عليه سوى أسابيع قليلة، يأتي لينقض أوهامها وليؤكد بأن التحرر من الاستبداد لا يحصل بالوكالة. ولعله بذلك يؤسس لصحوة تمهد للتعامل مع الاحتلال كما جرى وتعامل معه من سبق ووقع تحت نيره عبر التاريخ
العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ