العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ

من العراق إلى فلسطين... المشروع الوطني الجامع

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

يمكن أن نتفق - على قلة ما نتفق - على أن جرح العراق، جرحنا في العراق أو بالعراق، يضارع جرح فلسطين أو جرحنا في فلسطين عمقا وألما، وهو مرشح مثلما هو جرح فلسطين، لأن يكون بداية أخرى في سلسلة من الجروح تطول كل شيء، فهل تطول، على غير سيرتنا المعهودة مع فلسطين، التي أعقبتها انقلابات عسكرية انحصرت في فرديات حاصرتنا وحركات داخل دول الانقلاب وخارجها حاصرتنا، من حسني الزعيم إلى سامي الحناوي إلى أديب الشيشكلي إلى إبراهيم عبود إلى عبدالكريم قاسم إلى عبدالله السلال، وإذا ما ذكرنا جمال عبدالناصر بخير منغّص بحرب اليمن والتجربة الاشتراكية المتسرعة، فإننا لابد أن نتذكر أن معظم من أحاطوا به من الضباط الأحرار لم يكونوا بمستوى مصر وما يترتب على ثورة مصرية في مفصل عربي ودولي شائك.

هل تطول الجروح المتولدة عن الجرح العراقي البالغ البليغ الفصيح، أدوات معرفتنا وتحليلنا؟ معرفتنا بذاتنا وبالآخر القريب والبعيد، المؤتلف على اختلاف والمختلف على فرضية اتفاق؟ وتحليلنا للوقائع العظمى التي يغرينا النظر السطحي باعتبارها شأنا خارجيا لا يد لنا فيه؟ لنحاول للمرة الأولى والأخيرة، أن نتفق على أن شروط وقوانين وأوليات الداخل، داخلنا، هي الواقي والعلاج لما يسببه المؤثر الخارجي أيا كان مصدره وحجمه، أو هي تخفف من ضغطه بحيث لا تعمى القلوب التي في الصدور، والعقول التي في الرؤوس عن التصدي له بثنائية الاستيعاب والتجاوز؟ أي ان العلاج يتشكل في داخلنا أولا... فهل يتشكل؟... وإلا فإننا نخرج أنفسنا عربا ومسلمين، ومعنا شركاؤنا المسيحيون الشرقيون عموما والعرب خصوصا، الملزمون طبيعيا بحالنا ومآلنا كحال ومال مشترك، نخرج ونخرجهم معنا، من احتمال أن نعيد تجميع ما تبقى من أسباب النهوض أو منع السقوط النهائي؟

ما يعني أن العراق قد يكون نهاية لفصل من النوازل يفتح على فصل آخر يتميز عنه كمّا ونوعا، بما تقتضي احتمالات وتوجهات الامبراطورية الأميركية القائمة على أقصى الحداثة العلمية أو العلموية وعلى غياب المنافس الحقيقي أو ضعفه (أوروبا)... بدلا من أن يكون العراق بداية للأمل الذي يولده الإيمان العميق من اليأس «حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا».

يئسوا ولكنهم لم ينسوا أنهم رسل ملزمون باستحداث الأمل والرجاء... إذن فلا بأس أن نيأس مما قبل العراق، ليكون العراق توقيعا بينا لوثيقة يأسنا ومسوّغا له... وما قبل العراق مقامرة حداثة عربية هي حداثة الإذعان والاتباع لا المساءلة والابداع، ومقامرة حركة التحرر العربية، وعلى رأسها الحركة القومية، من دون مساس بعروبة الانتماء الحضاري الجامع إلى العروبة... وهنا لابد من إخطار الإسلام السياسي الحركي أو الحزبي المتأثر جدا بخصومه الحزبيين في حركة التحرر العربي، بأن مهمته ليست سهلة، وأن انتكاسته ستكون شديدة الوطأة... إذن فلابد من المراجعة والروية والرؤية... أي إقامة العقل بالعلم والمعرفة المتبادلة مقام الناظم لأطروحتنا بما هي مسعى للمطابقة بين الغيب والشهود، بين الوحي والتاريخ، من دون الوقوع في محذور تديين الدنيوي أي تقديسه وهو ليس مدنسا في الأصل، الإنسان هو الذي يدنسه أو لا يدنسه، أو دنيوية الدين أي تحوليه إلى ذريعة دنيوية تستبعد العدل والمحبة والأخلاق وتسقط المعايير، وهو الديني في الأصل ليس مفارقا للدنيا، بل هي زمانه ومكانه واختباره، والإنسان هو الذي يسقط دنياه على الدين، فالسؤال إذن عن دنيانا، والحفاظ على الفارق بين الديني والدنيوي هو في المحصلة لصالح المتدينين من العاملين في الدنيا.

من دون أن ننسى فلسطين، لأن ذلك حرام تكليفي وباطل وضعي (سحب التعبير الفقهي عن الأحكام الفرعية). إذن فنحن نذهب منها إلى العراق ونذهب من العراق إليها ونقول: كلاهما لن يجد ضمانه وشفاءه ومستقبله القريب والبعيد والصعب جدا على كل حال، إلا في مشروع وطني يضع السياسة في خدمة المقاومة ويضع المقاومة في خدمة السياسة، وعلى ألا نختزل المقاومة مرة أخرى بمستوى واحد من مستوياتها المتعددة، أي المستوى العسكري، الذي ليس بالضرورة أن يكون دائما هو الأولى، ويقوم مشروعنا الوطني في العراق وفلسطين، باعتبارهما الجرحين الساخنين (وفي غيرهما) على كل مكونات الاجتماع الأهلي والسياسي أو الأهلي أو السياسي (أحزاب، أديان، طوائف، مذاهب، أعراق... الخ). ويتيح لها جميعا أن تتجلى وتعبر عن نفسها بحرية لتندمج من دون أن تذوب، في توجه للتوفيق بين العمومية والخصوصية، ونتبادل القبول ببعضنا بعضا كما نحن، ونهيئ المجال لكل منا ليتطور ويمشي في اتجاه الآخر من داخله ومن خلال الانهماك بانجاز المشروع الوطني، بعدما احتل الاستبداد المساحة المشتركة بين جميع الأطراف وقطع التواصل بينها، ليثبتوا جميعا أن النزوع إلى التواصل والوحدة الراشدة المبرأة من نوازع الاختزال والإلغاء لا يستأصلان لأنهما أصلان أصيلان في أصولنا (نحن موحدون أولا والوحدة في اجتماعنا هي معادل التوحيد) من دون ضرورة إلى رفعها إلى مستوى الوحدة السياسية وأحيانا، كما الآن، بشرط عدم رفعها إلى هذا المستوى (الدولة والأمة).

إن المشروع الوطني العراقي أو الفلسطيني أو العربي عموما، القائم على الديمقراطية وحرية الاختيار والتحديث الأصيل أو الأصالة المعصرنة من دون افتعال، يمر بالأحجام والأعداد، يأخذها في اعتباره ولكنه لا يتجمد عليها ولا يجمدها، يتعامل مع الرقم والعدد ليضيف إليه أو يكمله بالدور والمعنى، الذي قد يلزم الأكثرية بتنازلات أكثر مما يلزم الأقلية، طالما أن الأقلية ضرورة معنى للأكثرية، إذن لا نتجاهل الأعداد وخصوصا إذا ما كانت التراكمات في العراق من دون أن يكون النظام ممثلا حقيقة لأحد سوى المتشاركين أو المتواطئين على أنظمة مصالح محدودة بين الحكام ودورة انتاجهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إذا ما كانت هذه التراكمات قد أدت إلى توترات حادة في وعي الجماعات العراقية الأشد تعرضا للتهميش والإقصاء، ويخشى إن لم يتم التعامل معها بدقة وعناية وذاكرة نقية واستشراف شفاف، أن تنفجر لتكمل من الداخل ما يريده الخارج، ويمسي العراق عراقا آخر، عراق الاضراب الدائري الدوار والعشوائي الممتد على مساحة المشهد ومستقبله، مستقبلنا المعتم الذي يحتاج إلى إرادات عالية وعقول راجحة وقلوب حانية لإضاءته أمام الأجيال.

نعرف أن في العراق ضمانات لا يستهان بها من بغداد إلى النجف والموصل إلى البصرة، ومن ثورة العشرين إلى اللقاء الوحدوي على الجسر بين الأعظمية والكاظمية، إلى الاجماع على فلسطين والحرية... غير أن المحنة أشد والاحتمالات أخطر، وتقديري أنه لابد من التفكير برؤية إسلامية يتشارك فيها الجميع لأنهم معنيون جميعا، من أجل عراق ينهض بنا وننهض به، يمانع الآن ويعاند، لينجو وننجو معه غدا... ان اهل التوحيد مدعوون إلى الاحتياط لتوحيدهم بوحدتهم وبتوحيدهم لوحدتهم... أما الشعب الفلسطيني فإننا مطمئنون إلى أنه يلتئم دائما بذاكرته ومخزونه الجهادي والمصير الذي يجمع

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً