العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ

أفغانستان جديدة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لا تتردد الولايات المتحدة في اطلاق شعارات يومية لخطة عملها في العراق. فالادارة تعلن على لسان أكثر من مسئول انها تريد تحويل بلاد الرافدين إلى «نموذج» يلعب دوره في تطوير سياسة المنطقة وتغيير ثقافتها وتعديل استراتيجيتها.

فالعراق الجديد هو طموح واشنطن. والجديد حتى الآن بحاجة إلى وقت، والوقت بحاجة إلى ناس لاعادة بناء ما دمرته الحرب، والبناء بحاجة إلى مال، والمال بحاجة إلى شركات... والشركات في معظمها اميركية. ومعظم المعظم له صلة بأصحاب القرار في إدارة الرئيس الاميركي من نائب الرئيس (ديك تشيني) إلى وزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) إلى مستشارة الأمن القومي (كوندليزا رايس) وغيرهم من اصحاب مصالح لهم صلات مباشرة أو مداورة بالمافيات والاحتكارات من هيئات تصنيع عسكري إلى مؤسسات طاقة تعمل في التنقيب والتكرير والنقل والتوزيع.

الجديد اذن ليس جديدا. وكل ما في الأمر هو مجرد عملية استبدال وحتى الآن ينتظر العراق التغيير الموعود الذي يقال انه آت... إلا انه سيتأخر بسبب عدم اتفاق الجهات المحتلة مع الاطراف المعنية على تأسيس هيئات وطنية تشرف على فترة الانتقال من مرحلة إلى أخرى.

الجديد اذن سيتأخر إلى فترة غير محددة في انتظار تبلور الادوات ووضوح الوسائل التي يراد استخدامها في التغيير وانتاج دولة عراقية «نموذجية» تكون مصدرا للاشعاع والنور في المنطقة العربية - الاسلامية.

وبانتظار ان يأتي «الوعد» على الشعب العراقي ان يقبل بالاحتلال ونتائجه وبالكثير من الكوارث الصحية والبيئية والتعليمية والامنية وغيرها من النتائج المتعلقة بالفوضى وعدم الانضباط والاضطراب وضياع الحاضر وفقدان البوصلة التي تحدد الهوية والاتجاهات وتعطي بارقة أمل عن قرب وصول السفينة بر الأمان.

العراق الآن دولة منكوبة في كل الحالات والمعاني السياسية والانسانية. وقوات الاحتلال التي تتحمل مسئولية ما يجري بحكم اتفاقات جنيف والمواثيق الدولية وقرار مجلس الأمن الاخير... تقف على مقربة من المشهد المأسوي تراقب الفوضى وتداعي البلاد التي تعيش اجواء الانهيار المعيشي الشامل: لا أمن، لا عمل، لا ماء، لا كهرباء، لا هواتف، لا ادوية، لا مواد غذائية كافية. وأخيرا لا سلطة مسئولة تمثل مرجعية وطنية تتحمل مسئولية إدارة أجهزة الدولة ومؤسساتها التي تعرضت للسرقة أو النهب او الحرق أو المصادرة من عصابات القتل والاجرام.

والسؤال: هل يكفي القرار الدولي الذي صدر حديثا عن مجلس الأمن لإعلان نهاية دولة وبداية دولة؟ وهل تشريع الاحتلال والموافقة على نتائجه واعطاء رخصة للقوى الغازية عناصر كافية للبدء في تأسيس ما يسمى بالعراق الجديد؟

الدول نفسها التي اجازت القرار في مجلس الأمن تدرك ان تلك البنود ليست كافية. فالقرار جرى تداوله في غياب ممثل شرعي عن الدولة المحتلة والمنكوبة، كذلك جرى تمريره بناء على رغبة من الدول الكبرى التي وجدت ان اضرار كلفة مشكلاتها مع الولايات المتحدة أعلى بكثير من اضرار موافقتها على شروط الاحتلال ونتائجه.

فالدول الكبرى وجدت نفسها بين «شرّين» واختارت شر الاحتلال وغلبته على شر استمرار خلافاتها مع «كتلة الاشرار» الحاكمة في البيت الابيض. فالصفقة الدولية قد تكون كافية لاعلان نهاية مرحلة وبداية مرحلة إلا انها ليست كافية لشطب دولة مستقلة وذات سيادة من الخريطة السياسية وإعادة تشكيلها وفق «نموذج» اسقط بالطائرات في بلد لا صلة له تاريخية واجتماعية وثقافية بذاك النموذج «المستورد». والعراق «الجديد» في هذا المعنى (الاسقاطي) ليس جديدا فهو سيكون مجرد دولة تضاف إلى بضع دول مجاورة... لأن البيئة السياسية في النهاية ستتغلب على النموذج وتعيد تكييفه في اطار ظروفها وخصائصها. فالدول كما يقول علم السياسة ليست ادارات تنظيمية بل هي نتاج انماط تاريخية تتطور بحسب تطور شخصية الشعب ونمو قواه المنتجة التي لا تستطيع الخروج عن حاجات البلد ووظائفه ودوره الاقليمي.

العراق الجديد في هذا المعنى ليس جديدا فهو لن يكون أفضل بكثير من «الدول الجديدة» في مناطق جواره الجغرافي - السياسي. ولن يتقدم على جيرانه إلا في حدود بسيطة ودرجات نسبية وهي ليست كافية للتميز أو التباهي. فالمسألة في النهاية متعلقة بالتاريخ والتطور والوظائف والحاجات والادوار و«النماذج» هي مجرد اطارات شكلية خاوية من مضمونها الاجتماعي والسياسي. فالمضمون لا يستورد بل ينتج ويلعب أهل البلاد دورهم في تحديد شخصيته ودلالاته وصفاته وعلاقاته.

الادارة الاميركية الحالية التي تسيطر عليها كتلة شريرة تميل إلى تبسيط الامور وتعلم ان كلامها عن «عراق جديد» و«نموذج» يحتذى في المنطقة مجرد أكاذيب لشراء الوقت. فهي تلعب لعبة الوقت لزرع الاوهام بإطلاق الشعارات الواعدة بينما الحقيقة ان العراق اليوم يعيش اجواء نكبة ومأساة يومية. والوقت الذي يمر لا يشير إلى تحسن بل المزيد من تآكل موجوداته وثرواته.

الادارة الاميركية تدرك ان سياستها ومماطلتها في حسم الامور يسهمان في اضعاف العراق (الدولة والناس) ويساعدانها على تحقيق اهدافها الحقيقية من وراء حربها المفتعلة على البلاد. فالفوضى تنهك الدولة وتزيد من حاجة الناس إلى الاحتلال بصفته الهيئة الوحيدة القائمة في البلاد.

العراق الجديد ليس جديدا فهو الآن دولة محتلة ومنكوبة وبموافقة دولية من مجلس الأمن. وما يحصل فيه ليس غريبا فقد سبقته افغانستان قبل أكثر من سنة على الامور نفسها ودخلت قبله تجربة قيل انها ستكون «رائدة» في جنوب غربي آسيا... وحتى الآن لايزال «النموذج» مغلفا بأوراق زاهية الالوان ولم يخرج من علبته.

العراق الجديد ليس جديدا انه مجرد افغانستان أخرى في المنطقة العربية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 265 - الأربعاء 28 مايو 2003م الموافق 26 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً