الفاصل الزمني بين اغتيال الرئيس الشاب جون كنيدي في العام 1963 ورحيل شقيقه الأصغر عضو مجلس الشيوخ ادوارد كنيدي في العام 2009 يختزل تاريخ أسرة سياسية وصراعها الخفي مع أجهزة السلطة في دولة كبرى لاتزال تحتل الموقع الأول حتى الآن في القائمة. 46 سنة بين حادث الاغتيال الغامض ورحيل الشقيق الأصغر عن عمر 77 سنة كانت كافية لرسم تاريخ دولة من خلال سيرة أسرة امتهنت السياسة وتوارثت المقاعد والمناصب وتعرضت للكوارث العائلية ودفعت ثمن الصراع الخفي مع مراكز قوى تدير «الدولة» من وراء الكواليس.
من قتل الرئيس كنيدي؟ سؤال لايزال يحتاج إلى أدلة دامغة لإقناع الملايين بأن المخابرات السوفياتية تقف فعلا وراء الحادث. هناك مئات الأجوبة والتحليلات والأشرطة وآلاف الوثائق وعشرات الأفلام التي أشارت إلى وجود «مؤامرة شيوعية» تم ترتيبها بالتفاهم مع النظام الكوبي وشبكة من الموالين لموسكو أو المعادين لواشنطن هي التي قررت التخلص من كنيدي انتقاما لدوره في الموافقة على عملية الإنزال العسكري في خليج الخنازير في كوبا للتخلص من حكومة فيدل كاسترو.
كل هذه الوثائق والذرائع لم تقنع الملايين من الشعب الأميركي. حتى الآن لاتزال الشكوك تدور حول الجهة المستفيدة التي موّلت وخططت ونفذت جريمة الاغتيال في مدينة دالاس. فالآراء المضادة تؤكد وجود شبكة داخلية نظمت العملية بهدف التخلص من رئيس صعب يتمتع بشعبية وعصبية ويستخدم رصيده السياسي لمنع مراكز القوى التصرف من دون رقابة وملاحقة.
فرضية أن كنيدي قتل بقرار داخلي لاتزال قوية ومتداولة ولم تنجح كل المحاولات الرسمية في تذليلها أو حذفها من مخيلة الناس وقناعات الملايين. وفرضية المؤامرة الداخلية، التي تحتاج إلى أدلة غير متوافرة، صمدت طوال هذه السنوات لاعتبارات كثيرة تتصل مباشرة بالسياسة الأميركية ودور الولايات المتحدة التدخلي في الشئون الدولية. وبسبب هذا الربط الآلي بين المؤامرة الداخلية والسياسة الخارجية نجحت فرضية اتهام المخابرات الأميركية بتدبير حادث الاغتيال بالصمود والقبول من جمهور واسع.
الفرضية لا تعتمد على وثائق وأدلة وإثباتات وأوامر وإنما على سياسة. فالسياسة الغامضة والمكشوفة التي اتبعتها واشنطن في التدخل العسكري المباشر في الشئون الدولية أعطت نظرية المؤامرة صدقية لا تحتاج إلى براهين دامغة.
بعد كنيدي انزلقت الولايات المتحدة في حرب فيتنام وانتقلت من موقع المساند من خلف الستار إلى دور القائد الذي يتقدم المسيرة في واجهة المسرح. وتورط إدارة واشنطن في عهد ليندون جونسون (نائب الرئيس المقتول) في حروب جنوب شرقي آسيا (لاوس، كمبوديا، فيتنام) عزز نظرية المؤامرة ودور مؤسسات التصنيع الحربي في تدبير حادث الاغتيال للتخلص من رئيس صعب في تقبل المعلومات والتحليلات التي تستعرضها الأجهزة وشبكات التجسس والمخابرات.
شكل حادث الاغتيال نقطة فاصلة في تاريخ الولايات المتحدة وتحول إلى مرجع للقراءة وإعادة القراءة وذريعة للخصوم والقوى المضادة للنظام الأميركي. فالجريمة كانت فاضحة وغامضة على السواء وهي استمرت كذلك حين قتل القاتل برصاصة أطلقها رجل مباحث في دائرة الشرطة، ثم توفي قاتل القاتل في مرض سرطاني في السجن ليقفل التحقيق ويتوقف عند هذا الحد. ولكن السؤال عن الجهة التي تآمرت على الرئيس لم يتوقف عن توليد الأجوبة الحائرة. فالشكوك اتسعت وأخذت تتطاول على الرئيس جونسون وربعه، وشبكة المخابرات، وأجهزة التجسس، ولوبي الصناعات العسكرية وغيرها من مراكز قوى ومافيات ونقابات.
انكسار الصورة
رحل ادوارد كنيدي أمس الأول بعد أن خدم 47 سنة في مجلس الشيوخ وهو غير مقتنع بالرواية الرسمية عن مقتل شقيقه الرئيس. كذلك رحل وهو لا يعرف الجهة التي خططت وموّلت ونفذت واستفادت من اغتيال شقيقه الثاني روبرت في العام 1968 حين رجحته الاستطلاعات أنه سيكون رئيس الولايات المتحدة بعد انتهاء مدة جونسون. الحادث الثاني أعطى حيوية لنظرية المؤامرة وجدد نشاطها بعد ظهور ملابسات قضائية في هوية القاتل (سرحان بشارة سرحان) ومبرراته السياسية وسهولة اختراقه للأجهزة الأمنية المولجة بالحراسة.
قصة كنيدي هي اشبه بسيرة سياسية تتصل مباشرة بتلك التحولات الداخلية التي طرأت على دولة كبرى في لحظة الانقسام الحاد في العلاقات الدولية وزمن صعود الاتحاد السوفياتي وقيادته للطرف النقيض في «الحرب الباردة». فهذه الحرب كانت باردة في جانب وساخنة في جانب عالم الجواسيس والاختراقات والمعارك الصغيرة والمصادمات في الأطراف وعلى ساحات «العالم الثالث». وسيرة عائلة كنيدي لا يمكن عزلها عن تلك التحولات والتطورات لأنها تشكل في جوهرها مجموعة تحديات في تلك الفترة للصورة النمطية الأميركية وموقع الرئيس في العلاقات الأهلية (الداخلية) ودوره في ترتيب السياسة الدولية. فهذه العائلة قوية وتمتلك عصبية وشعبية وتنتمي إلى الطائفة الكاثوليكية (من أصول ايرلندية). والأسرة منفتحة ومتعلمة وتتمتع بعلاقات مريحة مع أوروبا ورؤية مختلفة في التعامل مع الأقليات الأميركية الملونة.
شكلت هذه الخصوصية نقطة جذب وتجاذب. فالأسرة اكتسبت شهرة عالمية وفي الآن أثارت غضب أجهزة كانت تتخوف من نمو دور الجماعات الأهلية الأميركية التي تنتمي إلى أصول عرقية ولونية ودينية ومذهبية تخالف الصورة النمطية للتقاليد وصفات الرئيس ومؤهلاته. وحادث الاغتيال الذي تعرض له الرئيس كنيدي ثم شقيقه المترشح للرئاسة روبرت جاء في سياق سلسلة اغتيالات شابها الغموض في التاريخ الأميركي المعاصر. فالزعيم الإسلامي مالكوم اكس (القوة السوداء) اغتيل بطريقة مخادعة. وقائد حملة الدفاع عن حقوق الإنسان مارتن لوثر كينغ اغتيل أيضا بعد أن نظم أكبر مظاهرة في الولايات المتحدة وألقى خطابه عن «الحلم الأميركي».
عشرات حوادث الاغتيال حصلت في الستينات والسبعينات. كلها جرت في ظل المخابرات ورقابة مراكز القوى وانتهت جميعها إلى دائرة مقفلة في التحقيقات القضائية ما ساهم لاحقا في تعزيز نظرية المؤامرة وتحميل الأجهزة مسئولية الجرائم باعتبار أن القوى التي جرى التخلص منها تعارض عموما السياسة الأميركية أو هي على الأقل غير منسجمة مع توجهات الإدارة وثقافة التمييز العنصري واللوني وتنميط الحياة وفق شروط لا تتناسب مع «الحلم».
46 سنة مضت على اغتيال كنيدي ورحل شقيقه الصغير بعد خدمة دامت في مجلس الشيوخ لفترة 47 سنة من دون أن يقتنع بالرواية الرسمية عن الجريمة. فادوارد خاض معارك من نوع آخر تحت سقف النظام وشروط الدستور بعد أن تأكد أن حظه في الترشح للرئاسة ليس مضمونا ومصيره لن يكون أفضل من حال شقيقه روبرت الذي اغتيل عشية الانتخابات.
معارك ادوارد هي جزء من سيرة أسرة في إطار متغيرات شهدتها الولايات المتحدة خلال العقود الخمسة الأخيرة. فهذا السناتور قرر الانتقام في اللحظات الأخيرة من حياته بتوجيه رصاصة مؤذية للتمييز العنصري واللوني وللصورة النمطية للرئيس الأميركي حين وضع كل ثقل العائلة وما تمثله من سمعة وعلاقات إلى جانب ترشيح باراك أوباما عن الحزب الديمقراطي.
فوز أوباما بالرئاسة الأميركية شكل مفاجأة تاريخية ولكنه أعطى فرصة لتلك الأسرة أن تشهد فصلا مهما في فضاء من التحولات بدأت بالحلم وانتهت بانكسار الصورة النمطية. فالسنة الأخيرة من حياة ادوارد توجز الكثير من المحطات الأميركية الموصولة مباشرة بسيرة أسرة تحطمت طموحاتها في لحظات حاسمة شهدتها فترات معينة من «الحرب الباردة».
الآن رحل الشقيق الصغير من أسرة كنيدي التي لاتزال تبحث عن القاتل الحقيقي للرئيس الشاب. القاتل ليس شخصا وإنما ثقافة نمطية تؤسس علاقات التعصب والانغلاق وتشجع على القتل والاغتيال وافتعال الحروب. وهذا النوع من الثقافة يتوالد في كل العصور والشعوب ولكنه يعجز في النهاية عن تعطيل النمو والتطور باتجاه الانفتاح والتعارف... وتحقيق الأحلام حتى لو كانت على غرار دخول أوباما البيت الأبيض.
رحل ادوارد ولاتزال القصة البوليسية للاغتيال تتداعى ولكن أميركا بعد ذاك الحادث دخلت مرغمة في طور آخر انتهى في محطة مغايرة لثقافة نمطية لابد يوما أن يتجاوزها التاريخ
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2550 - السبت 29 أغسطس 2009م الموافق 08 رمضان 1430هـ